وهو ينظر إليها:(كريستيا! كريستيا!) ثم وضع يده على عينيه كأنما هو يحاذر أن لا ينظر إلى الصورة نزلة أخرى، ولكن الذكريات المؤلمة التي تعاورت نفسه في المعبد المقدس، ظلت على عنفوانها وعنفها، فما كان يستطيع أن يفلت منها، ثم زحمته هذه الذكر الطاغية وانقلبت به إلى تلك الليلة الصادرة التي ابتعث فيها بعض رجاله على الذهاب إلى (نيكوميديا) تحت الودق المنهمر، فذهبوا وبعد قليل عادوا ومعهم فتاة حسناء احبها قيصر حتى شغفه حبها، ثم جاءوا بضحيتهم إلى القصر والقوا بها إلى سرير في غرفة ينام فيها هراقليوس وعلى حوائطها صور الصالحين والرسل!
لقد ناشدته تلك الفتاة انتصاراته لعله يستبقي عفافها فلا يدنسه، فلما لم تنجح في استمالته أو مضت بيدها إلى صور الصالحين والرسل، وسألته بحق هؤلاء ألا يعبث بطهارة فتاة يتيمة كان أبوها من احسن المنافحين الذائدين عن حياض النصرانية، فما أمالته ذكريات انتصاراته عن أهوائه، ولا ثنته صور الصالحين والرسل عن منازعه، فراح يحتبس الفتاة العانية بين ذراعيه المشبوبتين غير ذاكراً فضل أبيها النبيغ البطل في تأثيل انتصاراته وتوثيق غاراته!
اسم هذه الفتاة (بليتزا) واسم أبيها الغطريف (تيوفان)، ذكر هراقيليوس هذا كله فيئس وابتأس وترجف ورعد، ورأى إلى كوارث حياته كأنها تجتمع في حضيض البيعة الصغيرة، فأدرك وهو الذكي الألمعي لماذا لم تستقبله الأماكن الطاهرة بمثل تلك الحماسة البالغة التي لقيها في معابد الوثنية، فصاح صيحة أليمة وخرج على شفتيه اسم (بليتزا)، فردد هذا الاسم فضاء المعبد الساكن! وراح الرجل الذي دخل بيت المقدس في حاشية من بطاريق الجيش وبطاريق الكنيسة يغمس يده في صدره، فيمزق ثوبه القيصري ويرمي بدرره وذهبه إلى حضيض المعبد، وشفتاه تتحركان بذلك الاسم الذي ما كان يفكر فيه قبل هذه الليلة:
بليتزا، بليتزا!
كان هذا الاسم أول ألحان هراقليوس في الأماكن الطاهرة، ولكن هذا اللحن الشجي لم يلبث أن استحال إلى نواح مذيب، فجعل الرجل المنتصر على الوثنية ينشج ويده تتجسس العمد الرخامية، ثم جلس على الأرض ووارى عينيه حتى لا يرى إلى هذه الصور!