حضر إلا في طريق الحج، وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم، فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبي الصوف وتزهد، وترك حضور المنادمة، والقول في الغزل وأمر الرشيد بحبسه، فلم يزل يكتب إليه الشعر يستعطفه حتى كتب إليه:
وكلفتَني ما حلت بيني وبينه ... وقلت سابغي ما تريد وما تهْوى
فلو كان لي قلبان كلفت واحدا ... هواكَ وكلفت الخليَّ لما يهوى
وروي مرة ثالثة عن محمد بن أبي العتاهية قال: لبس أبو العتاهية كساء صوف ودراعة، وإلى على نفسه أن لا يقول شعراً في الغزل، وأمر الرشيد بحبسه والتضييق عليه فقال:
يابن عم النبي سمعاً وطاعة ... قد خلعنا الكساء والدُّرّاعة
ورجعنا إلى الصناعة لما ... كان سخط الأمام ترك الصناعة
فلم يزل الرشيد متوانياً في إخراجه إلى أن قال:
أما والله إن الظلم لومُ ... وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
لأمر ما تصرفت الليالي ... وأمر ما توليت النجوم
تموت غداً وأنت قريرُ عين ... من الغفلات في لجج تعوم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نَؤوم
سل الأيام عن أمم تقضت ... ستخبرك المعالم والرُّسوم
تروم الخلد في دار المنايا ... وكم قد رام غيرك ما تروم
ألا يا أيها الملك المرجيّ ... لميه نواهض الدنيا تحوم
أقلني زَلةً لم اجر منها ... إلى لوم وما مثلي مَلوم
وخلَّصني تُخلَّص يوم بعث ... إذا للناس بُرَّزّتِ الجحيم
وسنستوفي فيما بقي من هذه الروايات في هذا الشأن الجديد الذي صار إليه مع الرشيد، ونعمل على التوفيق بينهما، ونرد هذه الحال الجديدة في أبي العتاهية إلى أسبابها الحقيقية
عبد المتعال الصعيدي