قد ابتلى كثير من المسلمين في هذا العصر بداء التقليد، وفشا فيهم خلق العبيد، وحرموا النظرة النقّادة، والعزيمة النفّإذة، والهمّة الخلاقة. رأوا سلاحهم أضعف من سلاح أوربا، وعلمهم أقل، ونظامهم أوهن، فجعلوا ذلك تعلّة إلى نبذ ما عندهم من خلق ودين وحضارة لتتحلل النفس من تكاليف الإنسانية، وتنطلق في بحبوحة هذه المدنية. وزيّن لهم الهوى أن يقيسوا الدين والأخلاق على العلوم والصناعات، فمضوا يرون كل شيء عندهم باطلاً، وكل شيء في أوربا حقاً، فاستحسنوا أن ينبذوا كل ما عندهم ويأخذوا كل ما عند الأوربيين، وخافوا أن يؤخذ عليهم الاستمساك بدينهم وأخلاقهم، فتنافسوا في هجرها وتحقيرها، فما يحافظون على رأي أو خلق إلا أن تأتيهم شهادة عليه من عالم أو كاتب أوربي، بل هم مدينون لأهل أوربا بما عندهم من ظن حسن في حضارة الإسلام وتاريخه، ومن زيّن منهم داره بفرش عربية فإنما يسميها (أربسكا) ويحاكي فيها أهل أوربا وهلم جرا، حتى الأزهريون وهم أبعد الناس عن أوربا آثروا أن يسموا الجامع الأزهر جامعة ليترجموا كلمة وسمّوا كل قسم من أقسامه كلية ليوافقوا كلمة
وكم قلت وقال غيري أن المدنية الخلقية والدينية ليست كالمدنية الصناعية، فالصناعات قائمة على علوم طبيعية لا تختلف فيها الأمم، ولا يمتاز فيها الشرق من الغرب؛ ليست مشتقة من نفس الإنسان، ولا صلة لها بقلبه، فتستطيع أمة أن تأخذ عن غيرها علوم الطبيعة والكيمياء والحساب والفلك ونتائج هذه العلوم في الصناعات دون أن تغير دينها أو تبدل أخلاقها؛ ويستطيع زنجي من السنغال أن يذهب إلى فرنسا فيتعلم الطيران أو يدخل في زمرة الجند فيصير عما قليل في البصر بآلات الطائرات، والدربة على نظام الجيش كالفرنسي، ولكنه لا يستطيع أن يغير أخلاقه وعاداته ويكون فرنسياً في خمسين سنة؛ والحضارة النفسية هي الإنسانية حقاً، والمدنية في صميمها وهي مشتقة من نفوس الأمة تفسد بفسادها وتصلح بصلاحها ذلكم ما ينبغي أن نفكر فيه، ونتوفر على درسه، فإن الأمم لا تصلح على الفوضى، ولا تسيّر بالأهواء والشهوات؛ ذلكم ما يجب أن يعنى به أولو الرأي من المسلمين ليأخذوا بحجز أممهم أن تتهافت في هذا التقليد، وتتردّى في هذه المهالك؛ ذلكم ما يجب أن ينهض به الشعراء والكتّاب، ليضروا في النفوس الذليلة عزة تمنعها المحاكاة العمياء، وكرامة تعصمها أن تسير كالعجماء. من لي في المسلمين بعشرين