رجلاً من كبار النفوس عظماء الهمم، البصيرين بالمدنية الحاضرة، ظاهرها وباطنها، العالمين بحضارة الإسلام جليّها وخفيها، العارفين بأدواء الأمم وأدويتها، لينيروا الطريق في هذه الضلالات المظلمة، والفتن المدلهمة؟ من لي فيهم بعشرين رجلاً كهذا العالم الكبير والشاعر المبدع الذي تنفخ أنفاسه الروح في الأجسام الهامدة، والأمل في القلوب اليائسة، الرجل المبارك محمد إقبال الذي انبعث صوته في الشرق بالحياة والهدى والعزة والكرامة، والطموح إلى العلياء، والسمو بالنفس إلى أعلى درجاتها، تلك النفس الكريمة التي تسيل في شعرها حسرات، وتتطاير في كلماتها زفرات، فما تزال تقدح قلبها لتبعث شرارة بعد أخرى تنير الطريق الحالكة، وتشعل النفوس الخامدة، ذلك الرجل الحر الذي وقف من حضارة أوربا وفلسفتها موقف الناقد البصير، يكشف عن زيوفها ويبين عن بهرجها
كم رأينا فينا علماء وأدباء وشعراء ومتفلسفين، ولكن أكثرهم لا يفكرون ولا ينطقون إلا بما سمعوا وما قرءوا، وهم لا يسمعون ولا يقرأون إلا عن أوربا. ليس فيهم رجل حر يفجر في قلبه من الحياة ينبوعاً، أو يضرم فيه من الغيرة ناراً، ليلقي على كل قلب نضحة من هذا الماء، وفي كل نفس جذوة من هذه النار، إيه يا ضلال التقليد! وعبّاد الأصنام في القرن العشرين!
إن عند المسلمين كنوزاً سفت عليها أعاصير الزمان فترت هممهم، وانطفأت نار الغيرة في نفوسهم، فآثروا الدعة حتى يأتي أهل أوربا يدلونهم عليها ويستخرجونها لهم! وإن عندهم لنفائس تنادي هممهم وعزائمهم، ولكنهم يؤثرون أن يتلقوا عن أوربا أشياء مهيأة في علب مذهّبة! ومن ركن إلى الدعة ذلّ، ومن آثر اليسير من الأمور وأشفق من لقاء المصاعب فهو حيّ أشبه بميت؛ وإليكم مثلاً من مئات:
لنا شريعة جاء بها القرآن والسنة وعملت فيها قرائح المسلمين بحثاً واستنباطاً ثلاثة عشر قرناً. فما بقيت واقعة إنسانية إلا اشتق لها حكم يلائم الزمان والمكان، فصارت هذه الشريعة جماع تجارب الأمم في عصور مختلفة وبلاد كثيرة. فلما أراد المصريّون أن ينظموا القضاء عجزوا عن النظر في هذه الكنوز المدخرة، وأشفقوا من الاضطلاع بهذا العبء الثقيل، فأجلسوا نفراً يترجمون لهم قانون نابليون، فتهيأ لنا قانون مختصر مرتب مفصل، وأصبحنا نجاري فرنسا في نظامها، فقد طوينا مسألة القرون في أشهر قليلة. وماذا علينا