والقراءة ما يفوق الوصف)؛ ويبدو من تعداده للكتب التي درسها وقرأها في هذا الطواف، إنه كان يعنى بدراسة الحديث والقراءة والنحو والفقه وعلوم البلاغة والتصوّف. ولم يعين السخاوي لنا تواريخ تنقلاته في هذه الرحلة، ولكن الظاهر إنها استغرقت بضعة أعوام.
ولما عاد السخاوي إلى مصر، عكف على التدريس، ولا سيما تدريس الحديث، أحياناً بمنزله، وأحياناً بخانقاه (معهد) الصوفية المعروف بسعيد السعداء؛ وكذا انتدب في أوقات مختلفة للتدريس في أعظم مدارس القاهرة كدار الحديث الكاملية والصرغتمشية، والظاهرية، والبرقوقية، والفاضلية وغيرها، وذاع صيته وأقبل عليه الطلاب من كل صوب. وفي سنة ٨٧٠ هـ - سافر مع أسرته - وكان قد تزوج يومئذ ورزق بعض الأولاد كما يفهم ذلك من إشارته إلى مولد ولده أحمد - ومع والده وأكبر أخويه إلى الحج للمرة الثانية؛ وصحبه أيضاً في تلك الرحلة صديقه وأستاذه والنجم بن فهد الهاشمي - وكان من أعلام العصر. ودرس بمكة مدى حين، وقرأ بالمسجد الحرام بعض تصانيفه وتصانيف غيره. ولما عاد إلى القاهرة استأنف دروسه وإملاءاته؛ وتبوأ مركز الزعامة يومئذ في علم الحديث، وشغل فيه نفس المركز الذي كان يشغله فيه أستاذه ابن حجر قبل ذلك بثلاثين عاماً
ثم حج السخاوي للمرة الثالثة في سنة ٨٨٥هـ، وقضى بمكة عاماً في التدريس والدرس؛ ثم حج سنة ٨٧ وقضى ثمة حين في الدرس والإقراء؛ وحج للمرة الخامسة في سنة ٩٢هـ وقضى ثمة عاماً آخر في الدرس والإقراء؛ ثمّ حج في سنة ٩٤، وقرأ الكثير من دروسه وتصانيفه، وغدت مكة وطناً ثانياً له؛ وكتب بها كثيراً من مؤلفاته كما سنرى
ولما عاد إلى القاهرة في سنة ثمان وتسعين (٨٩٨هـ) استقر بمنزله، وأبى الدرس والإقراء في المعاهد والحلقات العامة (ترفعاً عن مزاحمة الأدعياء) حسب قوله، وترك الإفتاء أيضاً واكتفى بالإقراء في منزله لخاصة تلاميذه؛ وكان السخاوي قد اشرف يومئذ على السبعين من عمره، ولكنه استمر منكباً على الدرس والتأليف؛ وكانت قد انتهت إليه الرياسة يومئذ في معظم علوم عصره، ولا سيما الحديث، حتى قيل أنه فاق شيخه ابن حجر في ميدانه، وانتهى إليه فن الجرح والتعذيب، حتى قيل لم يبلغ أحد مكانته فيه منذ الحافظ الذهبي؛ وكانت شهرته قد تعدت حدود مصر منذ بعيد وذاعت في أنحاء العالم الإسلامي،