فانظر إليه كيف نفر وشذ وجمح في الشطر الأول من البيت الأول. فلم ير الدنيا على نور الضحى كما يراها الناس جميعا، ولم يألفها على هذا النور كما يألفها الناس جميعا. ثم انظر إليه كيف ثاب وأناب وهدأ واطمأن وأحب هذه الدنيا، ولكن في نور العيون بعد أن اختصرت وهذبت ونفيت عنها الأعراض، واستبقيت منها الخلاصة الخالصة والصفو الذي برئ من كل كدر، حبذ الدنيا على نور العيون. ثم انظر إليه كيف فسر حبه لهذه الدنيا المصفاة في هذا البيت الجميل:
هي كالراووق للنور فلا ... صفو الا صفوها العذب المصون
فالعقادفي هذين البيتين لا يحب الدنيا المبتذلة التي يرخصها نور الضحى ويبيحها للناس جميعاً. وإنما يحب الدنيا المصونة الممتازة التي يحتويها نور العيون ولا يبيحها الا لطبقة خاصة من الناس هم الشعراء.
فإذا أردت، ويجب أن تريد دائماً مع العقاد، أن تتجاوز هذا المعنى الظاهر الذي يفهمه كل ذي حظ من الأدب، إلى الرمز الذي يريد إليه العقاد. وإذا ذهبت، ويجب أن تذهب دائماً مع العقاد، مذهب الرمزيين الذين يدلون بالقليل على الكثير وبالواضح على الخفي، فسترى إن هذين البيتين على قلتهما وقصرهما وضيقهما يسعان كل شيء ويصوران نفس الشاعر ونظرها إلى كل شيء. فالعقاد لا يحب الابتذال وإنما يحب الامتياز. ولا بأس عليه من ذلك ولا جناح عليه فيه، فالشاعر الذي يستحق هذا الاسم أرستقراطي بطبعه، وان كان أقدر الناس على تصوير الديمقراطية وفهمها وامدادها بالحياة.
وأكاد لا أشك في أن شعور العقاد صادق في كل هذا الباب من الديوان، ولو أني ذهبت أحلل الجيد من هذا الباب، وكله جيد، لما فرغت من التحليل في فصل ولا في فصول. وكم كنت أود لو أتيح لي أن أقف عند هذه القصيدة البديعة التي يسميها العقاد (المعاني الحية)، أو عند هذه الآية الشعرية التي يسميها العقاد (الغزل الفلسفي). أو عند هذه الآية الأخرى من بين الموشحات وهي التي سماها العقاد (ليلة البدر). فقد أجتمع للعقاد في هذه القصائد الثلاث من محاسن الشعر الرائع ما لم يجتمع له في غيرها من قصائد هذا الديوان. أجتمع له صدق الشعور وعلوه وصدق التصوير ودقته، وصدق الحس وامتيازه، وجمال اللفظ الذي لا غبار عليه، وأجتمع له التوفيق إلى المعاني النادرة التي قلما يقع عليها الشعراء