عندنا، والمهارة في تأدية هذه المعاني بحيث يخدع عنها القراء والسامعين فيخيل إليهم أنهم يقرءون أو يسمعون شيئا مألوفا. وهم يقرءون ويسمعون كلاما من أندر الكلام وأنفسه وأعلاه. كلاما لا يصدر إلا عن شاعر حقا. أجتمع له في هذه القصائد جمال التعبير وصدق الشعور، وكاد يجتمع له جمال التعبير وصدق الشعور في كلهذا الباب لولا ألفاظ تنبو عن سمعي وأحسبها تنبو عن سمع كثير من الناس كلفظ المأرف في قوله:
لك وجه كأنه طابع الصد ... ق على صفحة الزمان المأرف
فلست ادري لماذا لا أحب هذه الكلمة في هذا البيت، ولما اشعر بأنها قلقة لا تستقر في مكانها الا كرها، ولما اشعر بأنها صغيرة ضئيلة بالقياس إلى الزمان. وكلفظ الطين الذي أنكره غيري من النقاد على العقاد في قوله في القبلة:
هي كأس من كؤوس الخالدين ... لم يشبها المزج من ماء وطين
فأنا لا أناقش في المعنى ولا اعتدي عليه بمحاولة إفساده أو الغض منه. ولكن ذوقي هذا الذي تأثر بأدبنا العربي القديم ينفر، بل يفر من هذا الطين الذي يقرن بالقبلة. وأنا أفهم إن يعتذر الشاعر بصحة المعنى ودقته وامتيازه وارتفاعه من مألوف الناس، ولكني مع ذلك لا أطمئن إلى هذا الطين الذي تقرن به القبلة، أو يقرن بها. وهنا تظهر خصلة من خصال العقاد التي تميزه من غيره من الشعراء المعاصرين. فهو من شعراء المعاني الذين يحرصون اشد الحرص على تصحيح معانيهم وتجويدها وتميزها والارتفاع بها عن المألوف، ولكنهم لا يتكلفون مع الألفاظ ما يتكلفونه مع المعاني من تخير وتدقيق في التخير ومن تحرج وغلو في التحرج. هم اتباع المعاني وهم يزعمون أن الألفاظ يجب أن تتبعهم وان تدين لهم، وهم لا يطلبون إلى الألفاظ الا أن تؤدي لهم معانيهم وتعرب عنها إعراباً صحيحاً لا لبس فيه. فان أتيح لها مع ذلك أن تكون جميلة جذلة ورقيقة وعذبة فذاك وإلا فليس عليهم بأس ولا جناح. ولكن العقاد خليق بإحدى اثنتين: فإما أن يصلح تعريفه للشعر فلا يشترط جمال التعبير وإما أن يصلح مذهبه في الشعر فيكون احرص على تجويد اللفظ وتجميله وتزيينه في السمع والقلب مما هو الآن. وأنا أؤثر له الثانية، فليس من الحق في شيء أن الشعر يستطيع أن يستغني عن جمال اللفظ بجمال المعنى وروعته ولعله يستطيع أن يستغني بجمال اللفظ عن جمال المعنى أحياناً. فالشعر موسيقى أولا، وهو إذا متجه إلى