السمع، فإذا استطاع، أن يخدع السمع بجمال اللفظ وانسجامه، فقد يستطيع أن يخدع القلب والعقل وقد يستطيع أن يكتفي بالسمع وحده. والخير كل الخير أن يوفق الشاعر إلى الملائمة بين جمال اللفظ وجمال المعنى. والعقاد يوفق إلى هذه الملائمة كثيراً ولكنها تخطئه أحياناً.
تخطئه حين ينسى نفسه، ويعمد إلى الفلسفة ويريد أن يكون فيلسوفاً موضوعياً إن صح هذا التعبير، يعرض علينا الآراء الفلسفية في نفسها ومن حيث هي دون أن يبعث فيها شيئاً من شخصيته، أو من حياته كأنه العالم يقرر أصلاً من أصول العلم أو قانوناً من قوانينه. في هذه الحالة يتقن العقاد معانيه، ويصححها تصحيحاً لا غبار عليه. ولكن هذا الإتقان والتصحيح يستغرق جهده أو أكثره، ولا يكاد يبقي له الا ما يمكنه من النظم. وإذا شاعرنا مفكر من الطبقة الأولى ولكن نظمه يشبه نظم أبي العلاء، تنقصه السلاسة والنصاعة وصفاء الديباجة، وهذا الانسجام الذي يخلب سمعك ويملك عليك أمرك ويجعلك نهباً للشاعر يلقي في روعك ما يشاء.
كل هذه الخواطر تخطر لك حين تقرأ القسم الأول من وحي الأربعين. وأحب أن أكون منصفاً فلا يكاد الإنسان أن ينظر في هذا الديوان وفي غيره من دواوين العقاد، حتى يعجببالشاعر إعجاباً لا حد له، لأنه رفع نفسه ورفع الشعر معه إلى عالم لم يتعود شعراء العرب أن يعيشوا فيه، لا أكاد استثني منهم الا أبا العلاء. فالموضوعات التي يقصد إليها العقاد وينظم فيها الشعر موضوعات عالية كلها رفيعة، حتى إذا هبط العقاد إلى حيث يعيش الناس وشاركهم فيما تعودا أن يقرضوا الشعر فيه من الفنون لم يلبث أن يرتفع بهذه الفنون، ويحلق بها في جو لا يكاد يرقى إليه الطرف. وأكاد اجزم بأن العقاد لو استقامت له الألفاظ وأسمحت له اللغة، لمااستطاع أحد في هذه الأيام أن يساميه. ولكن لغته لا تمكنه من الأسف الشديد من أن يستمر محلقاً في الجو بل تثقل عليه وتثقل على معانيه وتضطره إلى الهبوط، فيهبط ومن حقه ان يظل عالياً. وهل يأذن العقاد في أن أنكر عليه خصلة أخرى في وحي الأربعين وهي هذه الشروح التي يقدمها بين يدي طائفة من قصائده الفلسفية والتي تترك في النفس أثراً مؤلماً ثقيلاً إلى حد ما، وتخيل إلى القارئ إن الشاعر قد تخير بعض الموضوعات الفلسفية التي طرقها الناس من قبله وأتقنوها بحثاً ودرساً فنظمها، ونظمها في