محاسنها، ولم يعد يرى في صفحات التاريخ ذلك القضاء الإلهي والنظام السماوي الذين يقودان الإنسانية إلى مرابعها التي خلقت لها، ولم يعد يستسلم لذلك القدر الذي يذهب بحياتنا ما يشاء، ولا لتلك الإرادة الإلهية التي تود أن تهدينا إلى سبيل النجاة والسلام.
بحث (نيتشه) جميع الأديان والشرائع منذ العصور الأولى والمذاهب التي نزلت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. وبعد أن شكك في هذه المذاهب وارتاب في حقائقها وأغرق في الإنكار عاد إلى هذه الفكرة التي قالها جازماً، وزعم إنه بهذه الفكرة حلّ مسألة الوجود:(إلا أن الآلهة جميعهم قد ماتوا! والآن نريد أن يحيا الإنسان الكامل. . السوبرمان) وهكذا أضاع نيتشه إلهه ووجد نفس.
بحث الناقدون كثيراً في فكرة نيتشه التي كانت تتطور وتتبدل تبعاً لما يحيط بحياته. وهو قبل بلوغه هذا المرفأ خاض بحاراً كثيرة وجاز شواطئ كثيرة. وقد أدرك بذاته تطور ذاته فشبه نفسه بالأفعى التي تنسلخ من جلدها أو النسر الذي ينسل ريشه. والحياة - عنده - ليست بواجب يلقى ولا بعمل يفرض ولا بوهم يحسب، وإنما هي مادة شأنها شأن المواد التي تقع بين يدي الباحث. وكان ينظر نفسه كالمتنقل بدون انتهاء. همّه النضال تهذبه انكساراته تهذبه كما انتصاراته، أو كالقافز بين الصخور يكاد يذهب بنفسه ضحية على رؤوس الصخور الشاهقة. وهو - بلا كلل ولا فتور - يصعد من عال إلى أعلى، ومن قمّة إلى قمّة، مبدّلاً كل لحظة أفقه عازما على ألا يقف أبداً ولا ينثني أبداً. رداؤه الشجاعة والصرامة، لا يروعه البرد ولا تخيفه الهاوية. ولا يجزع من العزلة التي يتنفس فيها ريح الثلج المنهمر. . . هو دائما في صعود وارتقاء. وهكذا يعتقد نيتشه الذي فهم الحياة إنها تفوق بعضها على بعض؛ يعتقد إن التطور لا غنى عنه، ولا بدّ منه لأنه مادة ضرورية في تحول الحياة. يعتقد نيتشه ذلك ويدأب على أن يوفق بين حياته وإرادته مع هذا المثل الذي اعتقد به، وقد كان توفيقاً كاملاً وكان تلائماً كاملاً، وصارت مسألته في الحياة هذه المسألة:(ما عسى يكون عندي معنى الحياة إذ لم يكن إله؟) ويجيب على هذه المسالة بهذه الكلمة: (إن اللاشخصية ليس لها قيمة على الأرض ولا في السماء. إن الحب الأكبر هو جوهر ضروري وجوده في كل مساء الوجود الكبرى. وهذا الحب وحده جدير بالأرواح القوية النشيطة ذات اليقين الراسخ. هنالك فرق كبير بين المفكر الذي يقابل مسائل الوجود