الحقيقة لا نعيش لأنفسنا ولا نملك أنفسنا وقفاً علينا. فهناك أوهام الطفولة وأساطيرها تحتل مكاناً منا، وهناك تعاليم الآباء والمعلمين تؤثر فينا، وكلها عوامل مترابطة متلاحمة لا يسهل على العقل أن يخترق سياجها، ولا يمكن المنطق أن يقوم اعوجاجها.
إن قوة العادة المتوارثة وتسامينا إلى الكمال وانفصالنا عن العالم الحالي، وحل كل عقد المجتمع، والشك في حقائق الوجود، كلها نوازع تتنازعنا وتملك علينا إرادتنا، والنكبات المفجعة، والتجارب المؤلمة، هي التي تسوق قلوبنا إلى الإيمان الذي ولد مع طفولتنا، وصاحب حداثتنا)
وبعد ثلاثة أعوام ألقينا (نيتشة) يخطو خطوته الأخيرة، ويعلن إن الإنسان بين حالتين لا ثالث لهما: فهو إما أن ينتخب الإيمان وما في الإيمان من هدوء ووقار واستقرار، وإما أن يمشي على طريق محفوفة بالأخطار: هي طريق الباحثين عن الحقيقة، الذين لا يتّخذون الهدوء والسكينة مأرباً لهم، وإنما يجدون مأربهم في نجدان الحقيقة. يمشي الباحث منهم وحده مضطرب النفس قلق الضمير، ممزق القلب، نحو ضالّته المقصودة، نحو ما يتجلى له من حق وجمال وخير، وهو إذا غادر طريق الباحثين ورضى لنفسه ذلك الهدوء فقد قتل البطولة في نفسه، وحكم على رجولته بالموت.
انفصل (نيتشه) عن المسيحية التي كان يؤمن بها قبل عهد الانفصال إيمانه بشيء رمزي قائم على قواعد رمزية، شأن الحقائق السامية تكون رموزاً لحقائق أسمى منها وأعلى. وظل يدرك خطر العمل الذي أقدم عليه، ويتكلّم في كل فصوله (عن موت الآلهة) كأن موته - عنده - حادث عظيم في تاريخ البشرية أو عمل نفّذ اليوم أوله والأجيال الآتية ستتممه. ولكن (نيتشه) اعدم هذه الآلهة ليبعث إله الحقيقة. (هذا الإله (الأدبي)، قد مات ليعيش الإله العلمي) وهكذا حمله حنينه الهاجع في أحناء نفسه للدين إلى الإيمان بآلهة الحقيقة. وعندما وجد نفسه يتنازعها إلهان سلطانهما نافذ: الإله الذي ورثه، والإله الذي لقيه، رأى أن يضحي بالأول ويبقى على الثاني. وهذا الإله هو الذي يسيطر وحده على كل تعاليم نيتشه ومبادئه، ولم يعش مع إلهه هذا كما يعيش أولئك مع آلهتهم مستسلمين قانعين بما نزل على قلوبهم من برد اليقين، فهو يهب عاملاً على تحطيم كل عمارة مشيدة على الإيمان بذلك الإله الأول، وهو - الآن - لم يعد يؤمن بنظام الطبيعة ولا بجمالها. ولا يميل إلى