فلما سمع الرشيد ذلك جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعاً وقت الموعظة، وأشدهم عسفاً في وقت الغضب والغلظة؛ فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا
وقد اختار أبو العتاهية عهد الرشيد لإظهار ما كان يخفيه في نفسه من ذلك لأنه كان أقل غلظة من أبيه المهدي، وأخيه الهادي، وأخف منهما عسفاً وبطشاً. وقد ذكر ابن خلكان أنه أراد أن يظهر بذلك في عهد المهدي، فأمر المهدي بحبسه في سجن الجرائم، فلما دخله دهش ورأى منظراً هاله، فطلب موضعاً يأوي فيه، فإذا هو بكهل حسن البزة والوجه، عليه سيما الخير، فقصده وجلس من غير سلام عليه، لما هو فيه من الجزع والحيرة والفكر، فمكث كذلك ملياً وإذا بالرجل ينشد:
تعودتُ مسّ الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسي من الناس واثقاً ... بحسن صنيع الله من حيث لا أدري
فاستحسن أبو العتاهية البيتين وثاب إليه عقله، فقال له: تفضل أعزك الله عليّ بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل ويحك! ما أسوأ أدبك وأقل عقلك ومروءتك! دخلت فلم تسلم عليّ تسليم المسلم على المسلم، ولا سألتني الوارد على المقيم! فقال له: اعذرني متفضلاً! فدون ما أنا فيه يدهش! قال: وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم، وسببك إليهم؟ ولا بد أن تقوله فتطلق، وأنا يدعى الساعة بي فأطلب بعيسى بن زيد بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن دللت عليه لقيت الله تعالى بدمه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك؛ ثم دعى بهما فطولب الرجل بأن يدل على عيسى بن زيد فأبى، فأمر المهدي بضرب عنقه. ثم قال لأبي العتاهية: أتقول الشعر أو ألحقك به؟ قال بل أقول، فأمر به فأطلق
وقد كان الرشيد أشفق بكثير مع أبي العتاهية في ذلك من أبيه. والذي أراه أن الرشيد كان يحبسه في ذلك ثم يعفو عنه، وأن ذلك تكرر منهما بقدر ما حدثتنا به تلك الروايات السابقة