من جيوش ودبابات وطيارات. . أفليس عجيباً أن هذا الشيخ ألهم أبن التسعين، قد:
سدّ الطريق على الزما ... ن وقام في وجه الخطوب!
والشيخ لا جرم نسيج وحده في هذا العصر، وهو بقية من المحدثين الأولين الذين ألفوا بسيرهم تاريخ المسلمين العلمي، أجل تاريخ علمي كتب أو يكتب إلى يوم القيامة. فقد لبث سبعين سنة، يشتغل بالدرس والتدريس والتقوى والعبادة، على خطة معروفة، وسنة مألوفة، ما تبدلت يوماً ولا تغيرت، إلا لمرض مقعد، أو أمر قاهر، أو سفر لازم؛ وقد بلغ من ثبات الشيخ وحسن ظنه بالله عز وجل أنه كان مرة في قطار الحجاز فوقف القطار في عرض البادية لشيء طرأ عليه، (وقد رأينا هذه البادية فإذا هي رمال ملتهبة، وشمس محرقة، ولا شيء سواهما) فنزل بعض القوم يصلون، ونزل الشيخ، فلما أحرموا بالصلاة وكادوا يركعون، صفر القطار، فانفضوا إليه فتعلقوا به وتركوا الشيخ قائماً. وسار القطار؛ (قال الراوي) فنظرت إليه فلا والله ما ألتفت ولا تحرك، فكدت والله أُجَنَّ، وأقبلت على من بيدهم أمر القطار فرجوتهم أن يقفوه فأبوا، فسقطت على قدمي كبيرهم حتى لان فأمر بالقطار فتقهقر حتى وقف على الشيخ فإذا هو جالس لم يسلم، فلما سلم قام فركب، وما يبالي بانقطاعه في البادية، ولا بالموت الذي يحوم حوله، ما دام قائماً بين يدي رب الأرض والسموات، ومن بيده الموت والحياة.
لبث سبعين سنة يفيق إذا عسعس الليل، فيصلي ما شاء الله أن يصلي، فيشعر بلذة العبادة، ويحس حلاوة الإيمان، ويسمو بنفسه عن الدنيا ولذاذتها حتى يحقرها وتهون عليه، فيصبح وهو يطير بنفسه في سموات الجنان والناس يمشون في حضيض الأرض
ثم يمضي إلى الجامع الأموي فيصلي الصبح مع الجماعة، في مكانه الذي لم ينقطع عنه ثلاثة أرباع القرن، وربما ثبت عليه أكثر من ذلك، فقد جاوز رحمه الله التسعين، فإذا قضيت الصلاة عاد إلى غرفته، فلبث يقرأ ويقرئ إلى ما بعد العتمة، إلا أن يكون يوم الجمعة فيجلس للدرس العام يحدث الناس تحت قبة النسر من الظهر إلى العصر، لا يسكت ولا يتنحنح ولا يقف؛ يبدأ بحديث فيرويه مسنداً، ويستقري طرقه كلها، ويتحدث عن رواته، ثم يذكر شواهده من الكتاب والسنة، فلا يروي حديثاً إلا رفعه، ولا كلمة إلا عزاها، ثم يذكر ما أخذه منه الفقهاء من الأحكام ويوازن بينها، ويبسط الكلام فيما يتصل بذلك من