الذي يكثر قوله في بلاد الغربة تشوقاً إلى معاهد الأحباب ومواطن الشباب، فإن هذا قد زخرت به العربية قديماً وحديثاً، ولم يخل عصر من أعصارها من لدن الجاهلية إلى الآن عن قوله والمكثرين منه. وما أشعار نجد والحجاز والعقيق ورامة وغيرها إلا بعض من كل، وقُل من جل، مما يتمثل فيه هذا اللون من الشعر العاطفي أحسن مثال. ولكن ما نعني هو الشعر الوطني بمعناه الشائع الذي يصطبغ بالفكرة السياسية التي ألمعنا إليها من قبل؛ وهذا هو الذي يصح القول فيه أنه وليد التجديد الأدبي في العصر الحديث، وأنه لم يكن له وجود في العصور المتقدمة التي ازدهرت فيها الآداب العربية سواء في شبه الجزيرة نفسها، أو فيما اصطنع لغتها من البلدان بعد إشراق نور الإسلام فيها - اللهم إلا هذا القطر الأندلسي الذي عقمت الأيام أن تلد مثله في رقيه وحضارته، فإنه لابد أن يستثنى من العموم
ذلك أن عرب الأندلس الذين تقدموا الزمن بكثير في النضوج العلمي لم يجز أن يتخلفوا عنه في الإحياء الأدبي، فطلعوا على العالم العربي بالتوشيح الذي لم يستطع التجديد العصري حتى الآن أن يأتي بما يشبهه من حيث التأثير البليغ في تحرير الشعر من قيود البحور والقافية الثقيلة، وقد حاول المشارقة أن يأتوا بشيء في هذا الصدد فاستظهروا بالدوبيت، والكان وكان، والقوما وغيرها، ولكنه كان شيئاً غريباً عن الذوق العربي غرابة هذه الكلمات في اللغة العربية، وكذلك قالوا الشعر الوطني وأكثروا منه وتفننوا فيه، فانفردوا به عن سائر الشعوب العربية، وسبقوا إليه الأجيال الحديثة، وكان إحدى مأثراتهم الجليلة في النهوض بالأدب العربي من وجه عام
ولقد كان باعثهم عليه هو نفس ما بعث إخوانهم اليوم من تكالب دول النصرانية عليهم وإذلالها لهم في عقر بلادهم، ولذلك لم يوجد في عهد الفتح وعهد الأمويين إذ أمر العرب مقبلٌ وشملهم جميع، وإنما وُجد بعد أن ضعف لسانهم ودالت دولتهم وصاروا يشهدون سقوط ممالكهم الواحدة بعد الأخرى، وحصون بلادهم في قبضة العدو فلا ترجع إليهم أبداً؛ وعرفوا الغاية التي إليها يسيرون، والمصير الذي منه يقتربون، فاشتد رعبهم وهلعت قلوبهم، فبكوا واشتكوا ونظموا الأشعار الوطنية في تحميس الناس للدفاع عن حقيقتهم والاستماتة في صون كيانهم، معرضين بما يؤول إليه أمرهم هناك من الذل والاستكانة وطمس معالم الحضارة والدين