للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حملت صحاف الأطعمة إلى الشيخ، فكان يتناولها ويضعها بين يديه تحت المائدة، ثم يتولى سكب ما فيها على الأرز واحدة بعد واحدة، بين برهة وبرهة، وهو لا يفتأ يذكر الله ويذكر باسمه كلما فعل، فأما حرصه على أن يضع الطعام بيديه بين أيدي الطاعمين فلعل سببه أن أبناء طائفته يلتمسون في ذلك خيراً وبركة. . . بل لقد خيل إلي أنني أجد ما يلتمسون كلما رأيت الشيخ يخرج مما بينه وبين المائدة صحافاً من الطعام كان يشغلني ما أنا فيه، وربما شغل غيري عن رؤيته وهو يتناولها من الخدم المتطوعين. . . وكأنما كانت بسملته المرتفعة الرهيبة التي تصاحب يديه كلما ارتفعتا وبينهما لون من ألوان الطعام في طريقه إلى الأرز، توحي إلى الناس أنه يستنبته مما بينه وبين المائدة، وكان الطاعمون جميعاً يتناولون الأرز بأصابعهم إلا من طلب الملعقة من خاصة الضيوف

وما إن فرغنا من الطعام حتى عاد الناس إلى مجالسهم صفوفاً وطيف عليهم بأباريق الماء فغسلوا أيديهم، ثم بالمناشف فجففوها، ومرت دقائق معدودة، ثم أقبل الخدم يمرون بين الصفوف ينثرون عليها ماء الورد، ويبدون بعده زجاجات من عطر عربي فياح، فتمتد الأيدي، وتنال كل كف حظها منه، وفي إثر هذا وذاك يمضي حملة البخور في طريقهم وهم يديرون أوانيها حول الرؤوس ثم يدخلونها تحت الأثواب، فيتصاعد بخار المسك والعود من فتحاتها. . . وثم شيء اسمه (التمْبُل) وهو ورقة شجرة هندية تعرف بهذا الاسم، تطوى على مزيج من توابل مرة المذاق جميلة الرائحة، يقال إن بينها نوعاً مخدراً، يمر بهذا التمْبُل بين الصفوف رجال من البهرا، فيحبون كل مدعو بواحدة إلا من رفض، فما إن يطبق المرء عليها فكيه حتى تروعه منها مرارة بالغة، ولقد روعتني أكثر مما روعتني ملوحة الملح، فتلفت أبحث عن وسيلة للخلاص منها، ولما لم أجد حثثت أسناني على مضغها حتى أستطيع ازدرادها، وإن هي إلا دقيقة أو بعضها حتى خفت وطأتها على لساني، وما فتئت تخف حتى زالت، وهي تزدرد بعد ذلك فتتعطر بها روائح الأفواه، وتطيب أنفاسها. وغادرنا دار الشيخ وفي أثوابنا شذى المسك، والعود، وفي وجوهنا عبير ماء الورد، وفي أكفنا نفح الطيب، بل وفي أفواهنا أريج القرنفل. . . فكأنما لمسنا نسيماً رفيفاً من نسائم الجنة، يمضي في طريقه فيهمس في آذان أهل الأرض بما ينقله عن أهل السماء

<<  <  ج:
ص:  >  >>