تبتسم ابتسامة شاحبة ذاهلة، حتى إذا ما تركته وتزودت منه بالنظرة الأخيرة، أحست بالألم يحز في قلبها، فهرعت إليَّ - وأنا صديقتها الواحدة - كالمجنونة، تشكو وتلتمس التشجيع؛ ثم ركنت إلى الصمت والهدوء، ولكنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة! وكنت أعلم أن وراء مشيتها الميكانيكية المفجعة ما وراءها! وأن تلك البسمة الصفراء الباهتة المتحجرة على شفتيها، تخفي وراءها ناراً ترعى قلب الفتاة المسكينة. كان هدوؤها المصطنع يقتلني، وكنت ألمح عن كثب وميض النار تتأجج بين جوانحها وتختفي تحت رماد الحياء والمداراة، كزبد الأفران العالية، يبدو سطحه للعين ترابياً أدكن، حتى إذا انفرج الزبد نرى حممه! ولم أكن أرجو شيئاً، إلا أن يمن الله عليها بنعمة البكاء!!
كان حبها من نار ونور، فلما حرمت نوره، رأت أن تحترق بناره في صمت! فقد كان عليها أن تظهر للناس بسّامة ضاحكة وإلا ولغت ألسنة السوء في سمعتها، ولوثت حبها الطاهر النبيل، وعبثت بمستقبل الحبيب النائي البعيد!
وكان عليَّ أنا، أن أتغنى بشهامتها، وأن أؤكد لها أنها ظفرت من الحياة بأوفى نصيب، حين اشترت بسعادتها سعادة ثلاثة آخرين! وكانت تنصت لكلماتي أحياناً ثم يغلبها الضعف فتفر إلى حيث تختلي بنفسها لا لتبكي، فليتها كانت تفعل، وإنما لتحترق في صمت!
ولمحت عن بعد شبح العاصفة يقترب في بطء، فلازمت الفتاة وأنا أكاد أختنق من الحزن والألم؛ فلما أعلن أخوها أن فتاها تزوج بابنة عمه، أرسلت نظرات محمومة مبهمة جوفاء! وفي بطء حزين، قامت إلى حجرتها، فركضت وراءها، ولم أجد ما أقوله إلا أن أطلب إليها أن تسرف في البكاء، فقد هالني تحجر الدمع في مقلتيها أشد مما يهولني الصراخ والنواح وانهمار الدموع!!