طارق وكورتيز في الواقع كلاهما أمام ظروف متماثلة: مغامرة مجهولة الظروف والعواقب، ومحاولة جريئة لافتتاح أرض جديدة وعالم جديد، وجيش قليل العدد ليواجه جيوشاً زاخرة لا يعلم نوعها ولا مدى قوتها. بيد أن مغامرة كورتيز وقعت في ظروف أكثر دقة وخطورة؛ فقد كانت أسبانيا من أمم العالم القديم ولم تكن مجهولة تماماً من العرب وكان بها شعب قديم يتمتع بحضارة لا بأس بها؛ ولكن كورتيز كان أمام عالم مجهول تكتنفه الظلمات من كل ناحية، ولم يكن يعرف ما هي الأرض، وما هي الأمم التي يزمع اقتحامها بجنده القليل
وصل كورتيز في أسطوله المتواضع إلى مياه المكسيك في سنة ١٥١٩ لغزو إمبراطورية (الازتكيين) الهندية، ولم يكن يعرف الأسبان يومئذ عنها شيئاً إلا أنها إمبراطورية ضخمة غنية تفيض بالنعم والذهب والوهاج؛ وما كاد كورتيز وجنده يضعون أقدامهم في الأرض الجديدة، حتى فكر الفاتح الجريء في إعدام سفنه؛ وأعدمت في الحال بغراقها؛ وكان كورتيز يرمى بهذا الإجراء إلى غاية ظاهرة هي ألا يدع إلى قلوب جنده سبيلاً إلى الخور أو أملا في الارتداد. إما الظفر أو الموت: هكذا كان شعار كورتيز، وهكذا كان عزمه وخطته، وكان عملاً جريئاً، ولكن ضرورياً، حتى لا يجد الناقمون أي وسيلة لمغادرة إخوانهم، وحتى يرتمي الجميع في أحضان الموت لا يلتمسون به بديلاً سوى الظفر. ولا ريب أن عمل كورتيز عمل بطرق خارقة، وربما كان أعظم عمل من نوعه في التاريخ، لأن الفاتح الأسباني تقدم في جرأة مدهشة لافتتاح الإمبراطورية الهندية العظيمة بجيش لا يعدو عدة مئات، ولم يحجم مع ذلك عن إعدام أسطوله، وهو وسيلته الوحيدة للنجاة في حالة الهزيمة والفشل؛ وكان ظفره بافتتاح ذلك العالم الجديد عظيماً مدهشاً
ومثل هذه الحوادث تبدو في التاريخ كالأسطورة وقد تمتزج أحيانا بالأساطير؛ وكلما بعدت في ثنايا التاريخ كلما كان امتزاجها بالأسطورة أشد وأقوى. بيد أننا هنا أمام أمثلة واقعة. وفي التاريخ حوادث من نوع مماثل في شذوذه وروعته مازالت في عصرنا تبدو كالأعاجيب الخارقة، فمثلاً يذكر التاريخ أن محمداً الثاني سلطان الترك العثمانيين وفاتح قسطنطينية، حينما حاصر قسطنطينية من البر والبحر، ولم يستطع أسطوله أن يقتحم خليج القرن الذهبي الذي تقع عليه المدينة من البحر، اعتزم في الحال أن ينقل أسطوله إلى البر،