فقال له: أحسنت، الآن طببت المعنى، وأمر له بعشرين ألف درهم
فإذا رأينا المأمون بعد ذلك يزهد في هذا الملك العظيم لأهله من بني العباس، ويؤثر به من بعده الإمام عليا الرضى من آل علي بن أبى طالب رضى الله عنه، فيزوجه بنته أم حبيب، ويجعله ولي عهده، ويضرب اسمه على الدينار والدرهم، فان لشعر أبي العتاهية أعظم الأثر في ذلك؛ وهذه هي النتيجة والثمرة التي جاهد به من أجلها، فقد سعى في تزهيد الناس في كل أسباب الدنيا والتكالب عليها، ليزهد العباسيين في التكالب على هذا الملك الذي يملكونه منها، ويعودوا به إلى سيرته الأولى، فيتولاه أصلح الناس له، ولا يستأثر به أحد على غيره؛ وهذا هو ما فعله المأمون مع علي الرضا، فقد كان بمدينة مرو وفيها علي، فاستحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين الكبار والصغار، وأستدعى علياً فأنزله أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحد أفضل ولا أحق بالأمر من علي الرضا، فبايعه وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام؛ وقد قام بسبب ذلك تلك الفتنة المعروفة بينه وبين عمه إبراهيم بن المهدي، فقضت على تلك الفكرة الصالحة، ومضى العباسيون في أمرهم إلى أن ملكهم خولهم وجنودهم من الترك وغيرهم، وانتهى أمرهم بتلك النكبة التي انتهى بها، ولا يعلم إلا الله ماذا كان يعود من الخير على المسلمين لو تم للمأمون من ذلك ما أراده، ورجع أمر المسلمين إلى ما كانوا عليه من الشورى في عهد النبوة والخلافة
وقد بلغت سن أبي العتاهية في عهد المأمون تسعين سنة، وأدركه أجله في تلك السن سنة ٢٠٩هـ ـ وقيل سنة ٢١١هـ ـ.
وروى محمد بن أبي العتاهية قال: آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه:
إلهي لا تعذبني فأني ... مقرٌّ بالذي قد كان مني
فما لي حيلة إلا رجائي ... لعفوك إن عفوتَ وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا ... وأنت عليّ ذو فضل ومنِّ
إذا فكرتُ في ندمى عليها ... عضضتُ أناملي وقرعتُ سني