للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إني لآملُ أن أُخَلَّ ... دَ والمنية في طِلاَبي

قال فجعل ينشدها وإن دموعها لتسيل على خديه، فلما رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها، وسألت عن الشيخ، فقيل لي: هو أبو العتاهية

وحدث حبيب بن الجهم النميري قال: حضرت الفضل بن الربيع متنجزاً جائزتي وفرضي، فلم يدخل عليه أحد قبلي، فإذا عون حاجبه قد جاء فقال: هذا أبو العتاهية يسلم عليك، وقد قدم من مكة، فقال: أعفني منه الساعة يشغلني عن ركوبي، فخرج إليه عون فقال: إنه على الركوب إلى أمير المؤمنين، فأخرج من كمه نعلاً عليها شراك مكتوب عليه:

نعلٌ بعثت بها ليلبسها ... قرْمٌ بها يمشي إلى المجد

لو كان يصلح أن أشرِّكها ... خدِّي جعلت شراكها خدي

ثم قال لعون قل له أن أبا العتاهية أهداها إليك، فدخل بها عليه فقال له احملها معنا، فلما دخل على الأمين أخبره بها، وأنه رأى أن أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لا بسها، فقرأ الأمين البيتين فقال: أجاد والله وما سبقه إلى هذا المعنى أحد، هبوا له عشرة آلاف درهم، فأخرجت والله في بدرة وهو راكب على حماره، فقبضها وأنصرف

ولما تولى المأمون بعد أخيه الأمين حسن حال أبي العتاهية في عهده، وكان المأمون أحسن حالاً من الملوك العباسيين قبله، فقرب أبا العتاهية منه، وأكثر من بره وصلته والإحسان إليه بما لم يفعل مثله معه سلفه؛ ومن ذلك أن أبا العتاهية كان يحج كل سنة، فإذا قدم أهدى إلى المأمون برداً ومطرفاً ونعلاً سوداء ومساويك أراك، فيبعث إليه بعشرين ألف درهم

ودخل عليه مرة فأنشده:

ما أحسن الدنيا وإقبالَها ... إذا أطاع الله من نالها

من لم يوُاس الناس من فضلها ... عرّض للأدبار إقبالها

فقال له المأمون: ما أجود البيت الأول! فأما الثاني فما صنعت فيه شيئاً، الدنيا تدبر عمن واسى منها أو ضن بها، وإنما توجب السماحة بها الأجر، والضن بها الوزر. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، أهل الفضل أولى بالفضل، وأهل النقص أولى بالنقص، فأمر المأمون بأن يدفع إليه عشرة آلاف درهم لاعترافه بالحق. فلما كان بعد أيام عاد فأنشده:

كم غافل أوْدىَ به الموت ... لم يأخذ الأهْبة للفوت

<<  <  ج:
ص:  >  >>