العامة، وإقامة القواعد التي لا تثبت للنقد والتمحيص. وآية ذلك أنك أنت نفسك قد أحسست بعض هذا الإسراع فأصلحته حين قضيت على اليونان في أول الكتاب ثم قضيت لهم في آخره. وستر أنك أسرعت في الأولى وأسرعت في الثانية، وكنت خليقا أن تصطنع الأناة فيهما جميعا. فليس من الحق أن اليونان كانوا أصحاب مادة ليس غير، وليس من الحق أن روحية اليونان هذه التي أنكرتها في أول الكتاب، وعرفتها في آخره قد جاءتهم من إلههم ديونيزوس وحده. فحظ اليونان من الروحية قديم تجده بيّنا في شعرهم القصصي في الإلياذة والأوديسا قبل أن تظهر فيهم الآثار العنيفة لدين ديونيزوس، وأنت تعلم أن ظهور هذا الإله عند اليونان متأخر العصر، وأنه في أكبر الظن اله أجنبي جاءهم من تراقيا، وأنه لم يعطهم هذه الحياة الروحية العليا، التي نجدها عند سقراط وعند تلاميذه، وعند أفلاطون بنوع خاص، وإنما أعطاهم حياة روحية أخرى كلّها تصوف وكلّها طموح إلى عالم مجهول مختلط تحيط به الأسرار والألغاز، وتعبّر عنه الرموز والكنايات. وكان هذا النوع من الروحية ذا مظهرين مختلفين، أحدهما شائع مشترك، يساهم فيه الشعب كله، وأهل الريف منهم خاصة، والآخر مقصور على طائفة معينة، هي هذه التي تتعلم الأسرار وتشترك في إقامتها وإحيائها. فكان دين ديونيزوس أشبه شيء بطرق الصوفية عندنا، علمها الصحيح مقصور على خاصة المتصوفة، ونشاطها العملي الغليظ شائع في أفراد الشعب جميعاً. وقد كان أثر ديونيزوس في الأدب اليوناني قوياً عميقاً. وحسبك إنه إله التمثيل، ولكن روحية اليونان الخصبة حقاً، الممتازة حقاً، التي أزعم معتذراً إليك إنك لا تستطيع أن تجد لها شبيهاً ولا مقارباً في مصر الروحية. هذه الروحية اليونانية تجدها واضحة جلية، عذبة ساحرة عند فلاسفة اليونان من تلاميذ سقراط، وعند أفلاطون بنوع خاص. ستقول كما قال كثيرون من قبل: إن أفلاطون قد زار مصر، وأخذ منها. ولست أنكر روحية مصر، ولكني لا أعرف عنها شيئاً كثيراً، ولعلي مدين لليونان بما أعرفه من الروحية المصرية. ومهما يكن من شئ فأنت توافقني على أن اليونان لم يكونوا أصحاب مادة فحسب، ولم تأتهم روحيتهم من ديونيزوس وحده، وإنما اليونان مزاج معتدل من المادة والروح. هم الذين يحققون مثلك الأعلى من المزاوجة بين المادة والروح، والملائمة بين الحركة والسكون، وبين القلق والاضطراب، ولذلك كان اليونان هم الذين أخرجوا للإنسانية في العصر القديم