قلت إني لا أنكر روحية المصريين. وأقول أيضا إني مؤمن بروحية الهنود، ومعترف بتأثير الروحية المصرية والهندية في حياة اليونان. ولكني لا أعرف من روحية المصريين شيئاً كثيراً لأننا لا نعرف للمصريين فناً ناطقاً، لا نعرف لهم أدباً بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. وأنت ترى معي أن الأدب هو أوضح مصور لحياة العقول والقلوب، لأنه يحقق مقداراً مشتركاً يمكن الاتفاق عليه، ويصعب الاختلاف فيه. فنحن إذا قرأنا الشعر أو النثر معاً، فهمنا فهماً واحداً أو فهمين متقاربين، ولكن الفن الصامت فن البحث والتصوير وما إليهما يثير في نفوس الناس معانٍ مهما تكن متقاربة متشابهة، فهي تختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والعصور، ها أنت ذا تفهم من الفن المصري ما تفهم، ويشاركك فيه كثير من المثقفين ثقافة أوربية، ولكن أواثق أنت حقاً بأن قدماء المصريين كانوا يرون تماثيلهم وعماراتهم كما تراها، ويفهمونها كما تفهمها، ويستلهمونها كما تستلهمها؟ أرأيتك لو سألت مصرياً معاصراً لرمسيس عن رأيه في تمثال من التماثيل، أو عمارة من العمارات، أيقول فيهما مثل ما تقول؟ ومثل هذا يقال في الفن اليوناني، وفي كل الفنون الصامتة، فليس من الخير أن نعتمد عليها وحدها في تشخيص عقلية الأمم وروحيتها، إنما المشخص الصحيح للعقول والقلوب والأرواح هو الكلام، والكلام الجميل الذي نسميه الأدب ونقسمه شعراً ونثراً. فإلى أن يكشف لنا علماء الآثار المصرية عن أدب مصري قديم خليق بهذا الاسم أرجو أن تأذن لي في أن أشك في كثير جداً من هذه الأحكام التي يرسلها الأدباء والشعراء وأصحاب الفن على عقلية المصريين القدماء وروحيتهم، وبعدهم عن المادة، وقربهم من الروح.
كل هذه عندي أحكام يتعجل بها أصحابها، ويرسلونها على غير تحقيق، وإذن فقد يكون من الإسراف أن تتخذ هذه الروحية المصرية الغامضة التي يسرع إليها الشك، والتي تعجز عن أن تثبت للبحث، والتي توشك إن تكون خيالاً تخيلته أنت وتخيله أصحابك من الأدباء ورجال الفن أساساً لأدبنا المصري الحديث. فمن يدري لعل البحث عن آثار مصر أن يكشف لنا بعد زمن طويل أو قصير عن حياة مصرية قديمة تغاير كل المغايرةهذا الخيال الذي تحبونه تطمئنون إليه، ويخيل إليكم أن الفن المصري القديم يوحيه ويمليه وينطق به.