للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في مدح الإله. ثم تطورت المأساة لتكون أشد تأثيراً في المخيلة، فأصبحت صورة رمزية لسحابات يلوح بينها الخيال الإلهي الذي يظهر على السكارى الهائمين في الوادي، السكارى بالإله. ولكن (ديونيزوس) لم يعد يظهر بشكله الإلهي. وإنما يظهر بهيئات الأبطال الذين يتمثل فيهم تحت قناع البطل (كيروموني) أو (أوديب). و (ديونيزوس) هو البطل الحقيقي في كل مأساة، يبدو بأشكال مختلفة. وهو في ظهوره هذا يشبه الإنسان في حياته، يتيه ويضل، يناضل ويتألم. (ديونيزوس) هو هذا الإله المتألم الذي تكلمت عنه الأساطير. هذا الإله الذي يحس في نفسه بآلام الفردية. هذا الإله الذي قالوا عنه إنهم جزأوه وهو صغير وعبدوه باسم الإله (زاكروس) ومن ابتسامته تولدت الآلهة، ومن دموعه نشأ الرجال

إن روح هذا الإله قد فتحت للعلم مجالاً عند اليونان. فهم بعد أن أطلقوا الأرواح من التشاؤم بتأملهم للجمال أو بشعورهم بخلود الإرادة، ذهبوا إلى طريقة ثالثة، هي المعرفة العقلية للوجود وأجزائه. فجاء العلم حليفاً ثالثاً معهم يناضل التشاؤم. فبينما يقول الفنان للحياة (يليق بنا أن نحياك، أيتها الحياة! لأن صورتك جميلة) يقول العالم لها (أنا أريدك أيتها الحياة! لأنك جديرة بأن تعرفي. . .) وهكذا وجد العالم في اكتشافاته العلمية من اللذة والبهجة ما يجده الفنان في أوهامه وأخيلته. وتآزرت هذه الأوهام كلها لتجعل وجه الحياة المشوه جميلاً. ويجب ألا نجحد أن فضيلة العلم إنما هي تتمثل في البحث الدائم والتنقيب المتواصل. لا في الحقائق التي يكتشفها. أو النتائج التي يبلغها. وخطيئة العلم القطعي هي أنه لا يقف عند معرفته للوجود واقتناعه بما أدرك وتفهم من أحاجيه وإنما يثب إلى إصلاحه وإتمامه، فتسعده حالتها الأولى مادام يبحث وينقب، ويشقى في الحالة الثانية مادام يطمح ويطمح إلى ما لا قبل له به. يعتقد ببساطة نفسه أن الوجود سهل فهمه بجملته وبأجزائه، وأن رأس كل فضيلة هي المعرفة، وأن الجهل هو مصدر كل بلاء، وبالعلم وحده يستطيع أن يبلغ الإنسان ما يشاء من أمهات الفضائل

جاء سقراط وهو أعظم مفكر يوناني جاحد للوحي، يؤمن بأن العقل وحده يقوم مقام الغريزة والفطرة في الحياة. والرجل العاقل له من عقله سلاح يدرأ عنه أخطاء الغريزة وضلال الفطرة. سلك سقراط طريقاً خالف به قومه واستطاع في النهاية أن يقهر معاصريه بسمو منطقه، وباختياره لمصرعه الذي لقيه. ترك الحياة هادئ النفس، لا يعضه أسى ولا يقرعه

<<  <  ج:
ص:  >  >>