للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ندم، كأنما كان يثبت بهذا المصرع إيمانه في الحياة إيماناً متفائلاً لا يتضعضع ولا يتزعزع

هذا هو عقل سقراط الذي هزم (المأساة عند اليونان) وحق لهذه المأساة أن تتلاشى أمام مجلس العقل، لما يطغى عليها من تعاليم لا يجمع بينها قياس ولا منطق. يستند كل ما فيها من تأثير على الموسيقى. المأساة لا توحي ولا توضح عن أية حقيقة نافعة؛ وقد تجيء فاحشة المغزى، أو ليس يبدو بعد هذا أنها تعمل على تحطيم أجمل النماذج التي تخلقها الإنسانية. فإذا كان هنالك أواصر متينة بين العلم والفضيلة والسعادة الحقيقية - كما يريد العلم المتفائل - فان المغزى الفاجع يغدو بدعة خطرة

إن سقراط لم يهدم فن المأساة وحده، بل هدم كل البراعة اليونانية. كان المثال الذي تجسد فيه العقل يوم كان اليونان يتبعون بأهوائهم شريعة الفطرة والغريزة. كانوا يريدون الحياة قوية جميلة، وهو يريدها منطقية، تفقه نفسها بنفسها؛ كان مظهر سقراط مظهر المزدري لروح عصره، وهو وحده أعلن بين معاصريه أنه لا يدري شيئاً، وأنه على حق في خصامه معهم. يعرج على نوادي الشعراء والمفكرين والخطباء والمعلمين، فيقول: إن هؤلاء الواثقين بأنفسهم يفكرون ويجادلون بدافع الفطرة وحدها، وهم لا يفقهون ما يصنعون. تراه حيثما توجه وأينما أنطلق لا يبصر إلا وهماً باطلاً، وخطأ فاشلاً، مما أضطره أن يعلن أنه مقدم على إنشاء حضارة جديدة يديرها العقل وحده. فهدم الحضارة الأولى ولم يبق على شيء منها، فعل ذلك وهو لا يشعر بأن العالم الذي هدمه هو أسمى من العالم الذي راح يبنيه بعقله

هذا ملخص ما رآه نيتشه في (المأساة اليونانية) وهو جد آسف على ذهاب ذلك الماضي النبيل. وقد لا يغنينا أن ننظر إلى مذهب (نيتشه) من حيث تعلقه بالتاريخ. فهو ليس في الحقيقة إلا مذهباً يستخلصه من بعض نظراته المختلفة إلى أدب اليونان. وللعلم الحق وحده أن يتقبل هذه النظرات أو يأباها

يقول نيتشه عن شوبنهاور: (أنا بعيد جداً عن الاعتقاد بأني فهمت شوبنهاور، ولكني مؤمن جد الإيمان بأن شوبنهاور قد أعانني على تفهم نفسي) وحال نيتشه في درسه العبقرية اليونانية قد تشاكل هذه الحال، فهذه الدراسة قد كشفت عن تفكيره وأبانت عن منحاه في الحياة. وهذه الإرادة التي يذرع بها (ديونيزوس) مجابهاً أخطار الموت والشقاء والألم تعبر

<<  <  ج:
ص:  >  >>