احتملت من جريان المياه الطاغية وتيارها القوي أكثر مما تطيق احتماله، فكيف بها الآن وقد أخذ الموج يلطّمها فيوهنها ويكاد يهدّمها تهديماً
وكان الخطر أعظم ما يكون في الضفة اليسرى من النهر، لأن أهلها كانوا أقل عديداً من جيرانهم أهل الضفة اليمنى، وأرضهم أوطأ من أرضهم، وسدودهم أضعف من سدودهم
وكان الرؤساء جميعاً، هنا وهناك، مع وفرة غناهم، وامتلاكهم الدور والأحراز والأرضين دون الفلاحين، أحرص منهم على حفظ السدود لحفظ الزروع. فداروا حولهم يشجعونهم ويضربون المقصّر المتخلف منهم عن صحبه بالعصي والسياط
ونحن الآن في الضفة اليمنى
حان الأصيل، وبدأت قصتنا؛ فوقف فتى طويل القامة مفتول الساعدين، آدم اللون، يدعونه (بدَّاي الفايز) ويتميز بخنجر مفضض لا يفارق حزامه، أمام رئيس من رؤساء القبيلة التي ينتمي إليها، معتدلاً يعلوه الشمم، وتهز كيانه نخوة الأعراب؛ وقد أصابته منه ضربة عصا كما أصابت غيره ضربات، وسواء أكان لتلك الضربة سبب من تقصير في العمل أم لم يكن، فان (بداي) الذي كان شاذا في قبيلته في بعض خلاله، قوي الشكيمة، عزيز النفس، معتزاً بقوة جسمه، لم يحتملها؛ فوقف يغمغم متظلماً في شبه ثورة وعصيان
وبهت الرئيس، فنظر إليه مستغرباً مستنكراً: مستغرباً شممه ونخوته وقد حسبهما طيشاً ونزقاً وخنزوانة عبد، وحمله خنجره المفضض حتى في ساع العمل العسير، مستنكراً تظلمه، وكيف لم يحتمل منه ما احتمل الآخرون أذلة خاضعين
وأقبل عليه يريد أن يضربه مرة ثانية؛ ثم انثنى عنه في لحظة فانشأ يرميه بما هو عند القبائل شر من ضرب العصي وأنكى، قال يعيره:
- (ويلك يا جبان! هل يرفع أنفك فيميزك عن أخوتك الطائعين هؤلاء خنجرك المفضض هذا!؟ ولأي يوم كريهة تحمل هذا الخنجر وتلك البندقية التي تعلقها بالسدرة؟ وأين كان هذا السلاح يوم قتل جسام أخاك عباس؟ ولماذا لم تثأر له به حتى الآن أيها الجبان الذليل؟!)
وإذ نطق باسم (جسام) شدّد (السين) تشديداً غريباً ومد (ألفه) وهو يشير بعصاه إشارة ذات معنى إلى ضفة النهر المقابلة؛ ثم إذ أتم كلمته أبتسم ساخراً متهكماً وتولى، وهو مدرك أية طعنة نجلاء طعن الفتى