وسمع بداي هذه الكلمة الطاعنة أمام الجمهور الحاشد من الفلاحين الذين كان يراهم دونه شمماً وإباء للضيم ونخوة، وهو في أسوأ حال من الاضطراب النفسي والغيظ، وعضّ على شفته إذ أخذته (العزة)؛ فصاح صيحة كاد ينفطر لها فؤاده:
- (أخسأ! أنا أخو شمسة! ولأنتقمن ولأدفعنّ عني عاري!)
وترك العمل وهو حانق غضبان. وشعر بأن حياته أضحت عبئاً ثقيلاً عليه. و (النار ولا العار!) وهل يهمه بعد الزرع وغير الزرع؟ (لقد قتل جسام من أبناء القبيلة المجاورة أخاه عباساً، في نزاع على دين قديم، منذ عهد قريب، وتلكأ عن أداء ديته. هذا ما كان يعلمه؛ ولكنه لم يكن راضياً بالعار الذي خلع عليه هذا الحادث منه جلباباً أسود ضافياً. لم يكن ساكتاً عن حقه، والثأر في القبائل كالدية، حقٌ. على أنه لم ير بداً من التريث حتى تنجلي هذه المصيبة التي حلت بالقبائل الفراتية كافة: مصيبة الفيضان. فكان من المروءة تركه وشأنه؛ أما وقد سبق السيف العذل؛ فعيرّ أمام الناس، فلا كانت الحياة إن لم يثأر وينتقم. . . . .)
هذا ما فكر فيه في دقائق مسرعة كالثواني، ونفض عباءته ليزيل ما علق بها من تراب حين العمل، ثم تناول بندقيته غير ملتفت وراءه، وتوارى عن الأنظار
- ٢ -
ونحن الآن في الضفة اليسرى
أقبل الليل؛ وانقلب الفلاحون إلى بيوتهم، وهم يتوقعون الخطر الجاثم حيالهم، يتوقعون أن تتدفق المياه عليهم في هذه الليلة إن لم تنقص قليلاً، وبقيت الريح العاصفة على شدتها تثير أمواجها فتوهن السدود. وكان الإعياء آخذاً منهم مأخذه فرقدوا متوكلين على الله؛ إلا الحراس منهم الذين أقاموا على السدود، فكانوا متحفزين للعمل، يروحون ويجيئون كأشباح الجن؛ يلفهم نور القمر الضئيل الذي حجبت سطوعه الريح الذارية وما كانت تحمله للقوم من غبار كثيف
وكان جسام القاتل واحداً من هؤلاء الحرس
وكان وهو في جماعته، مطمئناً غافلاً، لا يدري أن بداي قد أقسم لينتقمن لشرفه في تلك الليلة؛ لا يدري أنه جاء دارة القوم خلسة وقد عبر الفرات على زورق من زوارق الصيد