(العمامة)، لبياضها وصلاحها وطهارتها، فقالت: ولا كل هذا أيتها الفيلة؛ لقد تخرصت غير الحق فانك تحكمينا من أجلنا لا من اجلك، وما قولك إلا كلمات لا يحققها إلا أعمالنا نحن؛ فلك الطاعة فيما يصلحنا لا فيما يفسدنا، ورأيك شيء ينبغي أن تكون معه اراونا، لتتبين الأسباب أسباب الموافقة والمخالفة، فنأخذ عن بينه ونترك عن بينه؛ وقد كان يقال في قديم الحكمة: انه يجب على من يقدم رأياً للامة الحازمة كي تأخذ به، أو يضع لها شرعاً ليحملها عليه، أو يسن لها سنة لتتبعها - يجب على هذا المتقدم لتحويل الأمة وتحريرها أن يتقدم لأهل الشورى وفي راسة الرأي، وفي عنقه حبل؛ ثم يتكلم برأيه ويبسطه ويدفع عنه، ويجادله ويجادلونه؛ فان كان الرأي حقاً اخذوا الرأي، وان كان بطلاً اخذوا الحبل فشنقوا فيه هذا المتهور.
وفي ديننا أن الطاعة في المعصية معصية أخرى؛ ولقد كان لنا عضرفوط بحاثة في الأديان دراسة لكتبها؛ فكان مما علمنا إن المخلوق مبني على النقص إذ هو ماضٍ إلى الفناء، فيجب إلا يتم منه شيء إلا بمقدار، وألا تكون القوة فيه إلا بمقدار؛ ولهذا كان العقل التام في الأرض هو مجموع العقول كلها، وكان أتم الآراء وأصحها ما أثبتت الآراء نفسها أنها أصحها وأتمها. فلا الدين أتبعت أيها الفيلة ولا أتبعت فينا العقل.
فلما سمعت العنز ذلك تنفشت وغضبت، وقالت: إياكم وهذه الترهات من ألسنتكم، وهذه الأباطيل في عقولكم؛ لا اسمعن منكم كلمة الدين ولا كلمة الأنبياء ولا العضافيظ. . . فذلك وحي غير وحي أنا؛ وإذا كان غير وحيي أنا فأنا لست فيه، وإذا لم أكن أنا فيه فهو لا يصلح للحكم الذي شرطه أن الدولة ليس فيها إلا أنا واحدة. وذلك إن لم يجعلكم غرباء عني جعلني غريبة عنكم، ما بد من إحدى الغربتين، فهو أول القطيعة، والقطيعة أول الفساد. وما دام في الدين أمر غير أمري، ونهي غير نهيي، وتحليل وتحريم لا يتغيران على مشيئتي - فأنا مجنونة إن رضيت لكم هذا. . .!
فضحكت (العمامة) وقالت للماعزة: بل قولي: أنا مجنونة بـ. . . أنا. أفلا يجوز وأنت خلق من الخلق أن يعتري عقلك شيء مما يعتري العقول؟ ولسنا ننكر أنك قوية الرأي في ناحية القوة، حسنة التدبير في ناحية الشجاعة، متجاوزة المقدار في ناحية الحزم والحرص على مصالح الدولة؛ ولكن ألم يقل الحكماء: إن الزيادة المسرفة في جهة من العقل تأتي من