للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مثله في الأدب.

أما العنصر الثالث، فهو هذا العنصر الأجنبي الذي اثّر في الحياة المصرية دائماً، والذي سيؤثّر فيها دائماً، والذي لا سبيل لمصر إلى أن تخلص منه، ولا خير لها في أن تخلص منه، لأن طبيعتها الجغرافية تقتضيه، وهو هذا الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضّرة في الشرق والغرب. جاءها من اليونان والرومان واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى، ويجيئها من أوربا وأميركا في العصر الحديث. فخذ الآن أي أثر أدبي مصري فحلله إلى عناصره التي يتكون منها، فستجد فيه هذه العناصر الثلاثة دائما. ولكنك ستجد بعضها أقوى من بعض بمقدار حظ المؤلف أو المنشئ من هذه الثقافات الثلاث المختلفة. بعض هذه الآثار يغلب فيه العنصر العربي، وبعضها يغلب فيه العنصر الأوربي، وقليل جدا منها يظهر فيه العنصر المصري القديم. فإذا لم يكن بد من أن أصور المثل الأعلى لروحنا المصري في أدبنا الحديث، فأني أحب أن يقوم التعليم المصري على شيء واضح من الملاءمة بين هذه العناصر الثلاثة فتشتد عنايته جدا بالتاريخ المصري، والفن المصري، والأدب المصري على اختلاف العصور. وتشتد عنايته جداً بالأدب العربي، والتاريخ العربي، والدين الإسلامي. ثم تشتد عنايته بالثقافة الحديثة. وأخوف ما أخافه على هذا الروح المصري شيئان: أحدهما أن تلهينا الثقافة الأوربية عن الثقافة المصرية والعربية، وكل شيء يغرينا بها ويغريها بنا فهي ضرورة من ضرورات الحياة، فمن الحق علينا أن لا نضيع حظنا منها، ولكن من الحق علينا ألاّ نفني أنفسنا فيها. الثاني أن نؤثر ثقافة أوربية على ثقافة أوربية فنؤثر الثقافة الإنكليزية (كما يريد قوم وكما تريد سياسة الدولة) أو نؤثر الثقافة اللاتينية (كما يريد قوم آخرون، وكما كانت تريد سياسة الدولة من قبل) هذا خطر لأنه يجعل الروح المصري الناشئ وجها لوجه أمام روح أوربية أقوى منه وأشد بأسا. فيوشك أن يخضع له ويفنى فيه، فلو قد فتحنا أبوابنا للثقافات الأجنبية على اختلافها، لانتفعنا بها كلها ولأضعف بعضها بعضا، وحال بعضها دون بعض أن يفنينا أو يسيطر علينا. لذلك تمنيت وما زلت أتمنى لو لم تفرض على مصر لغة بعينها من لغات الأوربيين، بل جعلت اللغات الحية الراقية كلها مباحة للطلاب يأخذون منها ما يشاءون.

<<  <  ج:
ص:  >  >>