ورسمه صوراً شفافة واضحة لألوان البؤس التي يكتوي بنارها الشعب، ويقاسي بسببها العذاب وجدير بنا أن نتساءل: أكان مدفوعاً إليه بنفسه، مطبوعاً في حنانه؟ أم هو البيان يثيره والشعر يحفزه؟ أجاب حافظ - رحمه الله - بما يقطع كل شك ويقضي على كل تأويل:
فتقلبت في الشقاء زماناً ... وتنقلت في الخطوب الجسام
ومشى الهم ثاقباً في فؤادي ... ومشى الحزن ناخراً في عظامي
فلهذا - وقفت استعطف النا ... س على البائسين في كل عام
ولقد عرف إحساسه خلق كثير: عرفه صديقه الجليل الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري، فقال في المرآة،: (على انه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس. . . ولعل هذا من انه نضجت شاعريته في باب (شكوى الزمان)، وقال فيه ما لم يتعلق بغباره شاعر، فهو ما يبرح يطلب البؤس طلباً، ويتفقده تفقداً) ولا ينبئك مثل صديق
وعرفه كل من خالطه وعاشره، بل عرفه كل من قرا شعره، وتصفح ديوانه الذي هو صورة من نفسه
(قد دروا أن الشعر في كل ارض ... هو من نفس أهلها منزوع)
- ٣ -
إذن كان حافظ يتطلب البؤس والبائسين تطلباً، ويتفقدهم تفقداً، وكانت لديه رغبة قوية صادقة في مشاركة البائسين آلامهم، ومشاطرته احزانهم، (والرغبة الحق هي تلك القوة الروحية التي توحي إلى الشخص القيام بالشيء بهمة لا تعرف الكلل، ولا تقف دونها عقبة: رغب (ابراهام لنكولن) في تحرير العبيد يوم ذهب مع بعض العمال إلى السوق، فوجد جارية تباع وتشترى، فتألم لبيع الإنسانية وشرائها الألم كله، وتمنى أن لو أعطى سلطة حتى يضرب على الاسترقاق بيد من حديد، فأعطى الفرصة بعد زهاء ثلاثين عاماً، بانتخابه رئيساً للجمهورية في ولايات أمريكا المتحدة، فكان من أوائل اعماله، العمل على تحرير العبيد وان شدة الرغبة في الإصلاح الاجتماعي هي التي جعلت (شارلز ديكنز) اكبر كاتب ومصلح اجتماعي بانجلترة في القرن التاسع عشر.