وان الرغبة في أعمال الآلات هي التي جعلت (اديسون) اكبر مخترع في القرن العشرين. والأمثلة كثيرة لا حصر لها) وهذه الرغبة كانت قوية لدى الحافظ، تهزه ويجيش بها صدره، صادقة غاية الصدق، أراد بها إنقاذ الشعب من ذله، وتحريره من إساره وعبوديته؛ فلست احسب رجلاً وهبه الله إشفاقاً على البائسين، وحناناً على صرعى الفقر، وضحايا الإملاق، ومنكوبي الزلازل والغرق والحريق كشاعرنا العظيم؛ فهو يرسم ببيانه الذي يطاوعه صوراً ناطقة تكاد تتجسم أمامك، وتمثل بين يديك، تسمعك أنينها وتوجعها، وتبثك آلامها وتفجعها، وتحرك فيك ما كمن من عطف واستتر من حنان. فما سنحت فرصة إلا غرد بالألم، ولا حانت مناسبة إلا دعا إلى الرحمة.
- ٤ -
ولهذا نراه شديد الولوع بقصص المرزوئين وروايات المعدمين. شغف (بالبؤساء) فترجمها، وهام بها فنقلها إلى لغة قومه، لان فيها إرواء لعاطفته، وغذاء لنزعته، وتعبيراً صادقاً عن خلجات فؤاده، ولأنها منتجع خاطره، ومهوى قلبه. واختار لها من الألفاظ والأساليب ما يذيب قسوة الصلد رقة وليناً، ويخترق إذن الأصم فيضحى سميعاً. ولأنها تمثل لوناً من الإنسانية المعذبة، وطائفة من أسرى العوز، وضحية من ضحايا تتكرر على الدوام ولا تنقطع، تتكاءدها الهموم، وتمثل بها خطوب الزمن، وتنهشها أفاعي الضنك على مرأى من السراة وأولي الأمر؛ فلا يخلصها منقذ، ولا يدافع عنها نصير.
- ٥ -
ثم لهذا نرى الغزل في شعره قد توارى واختبأ، ولا نستطيع أن ننسب حافظاً إليه، لأنه أحس بما يشغله عن تتبع المرأة، ويصرفه عن طلابها
وقد يكون ذلك لضيق اليد، وخلو الجيب، إذ من شان الاتصال أن يتطلب المال، والوقت، والثراء. ولكني ارجح الأول؛ لسمو غايته، ونبل مقصده، وموافقته لحياة شاعرنا ثم لهذا أيضاً بكى كل مصاب ومفجوع، وناح على كل ضائع وشريد، واستبكى المحسنين معه ليستدر عطفهم ويستميل قلوبهم
- ٦ -
وإذ أحس أن كثيراً من أهل العسرة وضيق اليد يرمقون المال ويتشهونه، حتى إذا لم ينالوه