يخلق الجو الروسي في كافة رواياته التي آلفها في سويسرا كنتيجة للاعتبارات السابقة، إلا انه مع هذا كله خشي أن هو ابتعد طويلاً عن وطنه أن يخف ويتضاءل مقدار الجو الذي اختزنه في حياته الماضية، وشعر بحاجته - على حد التعبير الأدبي - إلى أوكسجين روسي يملأ رئتيه. لأنه أستشعر بأنه مهما استنهض كل الذكريات في خلق الجو فأنه في حاجة إلى أن يكون دائماً في ذلك الجو ليطمئن على فنه من أن يختلط بأجواء أخرى فيفسد وتضعف روعته. أو تشيع فيه الفوضى والاضطراب
إن الفنان العظيم لابد أن يكون له جو خاص، هذا الجو هو ذوب مواهبه، هو العالم الذي يضع فيه افكاره، ويخلق بين جنباته أعماله الفنية؛ فإذا رأينا رجلاً مثل دستويفسكي يحتاج إلى جو روسيا لتكوين إعماله الأدبية، فهو يعطي لهذا الجو شكلاً ولوناً ورائحة تختلف عن غيره من سائر القصصيين الروسيين وإن اتفقوا جميعاً في شيء واحد، وهو الجو العام لبلادهم، إلا أن لكل منهم جوه الخاص. ومن هذه النقطة تتفاوت أقدار الفنانين تبعاً لقدرة كل منهم وسمو فنه وحذقه عن الآخرين
والقصصي الذي لا تلمح في عمله جواً خاصاً به، ولا تحس بهذا الجو أو وجوده، أو ترى جوه خليطاً من تأثرت شتى؛ هذا القصصي لا يمكن أن يكون قصصياً صحيحاً. لأن التركيز ينقصه، بل هو قصصي (اكتسب) فن القصة اكتساباً، والتقط موهبته الفنية من مواهب الكثيرين، واستلب من كل الأجواء الأدبية التي عاش فيها شيئاً، ليعيش لحظات على التقليد أو المحاكاة. وهذا الفنان تبدو حياته الفنية مهددة دائماً بالموت والانتهاء، لأنه شائع بين كافة الفنانين، لا شخصية له بينهم
إن أهمية وجود الجو في القصة لا حد لها. فأن هذا الجو هو الذي تخلق فيه الشخصيات والحوادث، وكلما كان القصصي أو المصور، أو الموسيقي، أو الشاعر، مؤمناً بالجو الذي يعيش فيه ارتفع فنه إلى الذروة، واستطاع أن يبرع في إيضاح عمله الفني
قد تكون القصة - في موضوعها - بسيطة لا شذوذ في حوادثها، ولا مؤثرات مفتعلة كما نرى في القصص الرخيص، ومع هذا فأن القصصي يستطيع أن يسمو بالحادثة الصغيرة إلى أوج الفن القصصي؛ وذلك لان طريقة العرض والتقديم والجو الذي تنطلق فيه القصة هي التي تحيا بها القصة. ومن هنا فقط نستطيع أن نقارن ونفاضل بين القصصيين، فأن