القصصي لا يمتاز عن غيره بكثرة الأغراب في الحوادث، بل هو يمتاز بجوه، هذا الجو الذي تحيا فيه شخصيات قصصه؛ حتى ليشعر القارئ بأنه يعيش في مع تلك الشخصيات، وبهذا يحس القارئ أنه أمام عمل فني مجيد، جدير بالتأمل العميق، لا يمكن أن يذهب أو يضمحل بعد قليل كما تذهب صور الحوادث التي يقرأها الإنسان في الصحف، والتي يعتقد بعض الناس - خطأ - أن هذه الحوادث من القصص، وهذه الحوادث في المعنى الفني أحط أنواع القصة وأكثرها تفاهة
ولنقرب هذا، نقول أن كثيرين يسجنون مثلاً، فإذا خرج أحدهم من السجن وأحببت أن يورد لك شيئاً عما رآه وأحسه في المدة التي أمضاها في السجن اقتصر على ذكر الحوادث، وهذا شيء عادي يمكن لكل إنسان أن يفعله؛ بينما لا يعمد إلى ذلك الفنان الذي يعيش في جو السجن، فهو يرى الحوادث التي وقعت له في السجن في المكانة الثانية. أي أن جو السجن ساعد مواهبه على أن يكون شخصاً إيجابياً لخلق الاحساسات والتأملات والأفكار، بعد أن انعكست عليه حوادث السجن المختلفة، فأخرجها على النحو الذي أحس به، وهذه هي شخصية الفنان. إذ أن الحادثة تمر به فلا تعبر بسيطة كما تعبر بسائر الناس، ويرى المنظر، فلا يراه كما يراه غيره بصورته الظاهرة؛ بل يراه بعينه الفنية التي تنفذ إلى أبعاد شتى لا يمكن أن تخطر على ذهن عادي، أو تتلفت شعوره
إن ثقافة الفنان وسعة اطلاعه لا تكفيان لكي يكون القصصي كاتباً مجيداً، يستطيع أن يخلق الجو القصصي؛ وقد يبرع القصصي في تكوين القصة من كل جوانبها، ولكنه يفشل فشلاً تاماً في إيجاد الجو، ولنضرب المثل على هذا نقول: إن الأغاني الريفية تحس فيها حرارة الإيمان بالبيئة، وهي على الرغم من صراحتها وخلوها من الزخارف الكثيرة التي تفسد طبيعة الأغاني وتباعد بينها وبين الحقائق، وقربها من الطبيعة وتعبيرها المبين عن مشاعر إنسانية مأخوذة من البيئة هي في قيمتها الفنية أسمى من الأغاني التي لا تعتمد على الجو، بل تعتمد على اللامعان في التأثير بذكر الهجر، والوصال، والدموع، وما إلى ذلك من العواطف التي يمكن حشدها في كل أغنية في أي إقليم. وقد تكون الأغنية الأخيرة في تجويدها ورقتها وزخارفها، أحسن من الأولى صنعاً، إلا أنها مفقودة الطابع
وعلى هذا الوضع نقول بأن (الجو) لا يمكن أن يخلق عند الفنان إلا إذا كان مؤمناً كل