كنت يومئذ في بكرة الشباب، في تلك السن التي تدفع الفتى إلى الحياة بعينين مغمضتين، وفكر حالم، ورأس يزدحم بالأماني؛ وقلب مملوء بالثقة؛ ثم لا يكاد يفتح عينيه على حقائق هذا الوجود، حتى يعرف أن دنيه من دنيا الناس، ويحس الفرق بين علام قلبه وعالم حسه، وتسخر منه الدنيا سخريتها الأليمة؛ فيلجأ إلى وحدته الصامتة يذرف دمع عينيه ودمع قلبه، فلا يطرب إلا لأنغام الحزن، ولا يسري عنه إلا رسائل الأحزان. . .!
واستهواني عنوان الكتاب، فتناولته اقلب صفحاته، لا أكاد أفهم جملة إلى جملة. . حتى انتهيت إلى قصيدته (حيلة مرآتها) فإذا شعر عذب يخالط النفس، وينفذ في رفق إلى القلب؛ وإذا أنا أعيدها مرة ومرة، فلا أدع الكتاب حتى أستظهر القصيدة. وحبب إلي هذا الشعر الساحر أن أعود إلى الكتاب فأقرأه في روية ومهل لعلني أن استدرك ما فاتني من معانيه؛ وأدخر لنفسي قوة من سحر بيانه، وصدق عواطفه؛ وعدت إليه أقرؤه قراءة الشعر، أفهمه بفكري وشعوري، وأنظر فيه بعيني وقلبي؛ فإذا الكتاب يكشف لي عن معناه. .
وأحببت الرافعي من يومئذ، فرحت أتتبع آثاره في الصحف والكتب، لا يفوتني منها شيء. وأشهد، لقد كنت اجهد جهداً شديداً في فهم كتابة الرافعي؛ لأني لم يكن لي عهد بمثلها فيما أقرأ، وما كنت أقرأ من قبل إلا لإزجاء الفراغ، التمسه في ذلك النوع الهين من أدب القصص والصحف؛ على أنني كنت إلى جانب ذلك أحب الشعر، أقرؤه فأفهم ما أقرأ، فكان لي من ذلك ما أعنني على فهم الرافعي، ثم الإعجاب به من بعد، ثم ألا يعجبني إلا مثل ما يكتب. . .
صلتي بالرافعي:
كنت اعرفه واسمع عنه، على حين لا يعرفني ولا يسمع بي، وليس عجيباً؛ وكنت ألقاه في الطريق منطلقاً إلى غرض، يهز في يمناه العصا، ويتأبط بيسراه عديداً من الصحف والمجلات والكتب، واسع الخطو لا يتمهل، ماشياً على حيد الطريق لا يميل، ناظراً إلى الأمام لا يتلفت إلا حين يهم باجتياز الشارع؛ فإذا ألقيت إليه تحية، رفع يمناه بالعصا إلى رأسه من غير أن ينظر يمنة أو يسرة أو تضيق خطاه؛ وكنت أرى ذلك فأحسبه نوعاً من الكبر وأرستقراطية العلماء، فباعد ذلك بيني وبينه إلى حين. . .