للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ففي خريف سنة ١٩٣٢ اجتمع بطنطا طائفة من الشباب على تأليف رابطة أدبية باسم (جماعة الثقافة الإسلامية)، تقوم أغراضها على العناية بشؤون الأدب والاجتماع، والعمل على أحياء مجد العرب والإسلام. وتذاكر المجتمعون فيمن يمكن أن ينضم إلى الجماعة من أهل الرأي لتقوى به على تنفيذ أغراضها، فكان اسم الرافعي أول هذه الأسماء

وذهبت إليه عن أمر الجماعة في وفد ثلاثة، فلقينا الرجل مرحباً مبتسماً وقادنا إلى (دار كتبه)، ثم جلس وجلسنا؛ وفي تلك الغرفة التي تتنزل فيها عليه الحكمة ويلقى الوحي، جلسنا إليه ساعة يجاذبنا ونجاذبه الحديث ما نكاد نشعر أن الزمن يمر

كان جالساً خلف مكتب تكاد تكون اكتب من فوقه تحجبه عن عيني محدثه؛ وعن يمينه وشماله مناضد قد ازدحمت عليها الكتب في غير ترتيب ولا نظام، تطل من بين صفحاتها المطوية قصاصات تنبئك أن قارئها لم يفرغ منها بعد، أو أن له وقفة عند هذا الموضع من الكتاب سيعود إليها؛ وعلى حيطان الغرفة أصونة الكتب المتراصة، لا يبدو من خلفها لون الجدار. . .

ومضى يتحدث إلينا حديث المعلم، وحديث الأب، وحديث الصديق؛ فما شئت من حكمة، وما أكبرت من عطف، وما استعذبت من فكاهة؛ وللرافعي فكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقر المصنوع؛ على أن له في فكاهته مذاهب عقلية بديعة، تحس فيها روحه الشاعرة، وفنه البكر، وحكمته المتزنه، وسخريته اللاذعة؛ ويكاد يكون كثير من مقالات الرافعي برهاناً على ذلك، فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة

وطال بنا المجلس وخشينا أن نكون قد أثقلنا عليه فهممنا بالانصراف، وإذا هو يطلب إلينا البقاء، ويلح علينا في تكرار الزيارة، ويكشف لنا عن سروره بألا نغب مجلسه، وعرفت الرافعي عرفاً تاماً من يومئذ فلزمته، وعرفني هو أيضاً فأصفاني عطفه ومودته

اختبار!

وجلست إليه في الزورة الثانية وبين يديه صحفه وكتبه، فدفع إلي صحيفة يومية كان منشوراً فيها يومئذ قصيدة لشاعر كبير، وطلب إلي رأيي في القصيدة. لم أتنبه ساعتئذ إلى غرضه، وحسبته يقصد إلى أن يشاركني في لذة عقلية أحسها في هذا الشعر؛ فتناولت

<<  <  ج:
ص:  >  >>