الضياع والانفراط. وهل كان عليّ يترك دولة الإسلام في مثل هذا المأزق ويتردد في قبول حمله والاضطلاع به؟ لقد كانت المشكلات واضحة لكل ذي عينين، وكان كل من عرضت عليهم الخلافة يرفضونها، وهم يخشون ما وراء قبولها من العقبات والأخطار والمتاعب. فلم يكن الأمر أمر خلافة وسلطة وسيادة بل كان الأمر أمر شقاق، وكان على الخليفة أن يحاول القضاء عليه، وأمر دولة تريد أن تنهار ويجب الاحتفاظ بها وحفظها من الضياع، وأمر شهوات وأغراض يريد أصحابها أن يصلوا إليها متسترين بالثأر، والواجب حماية المجتمع والدولة الإسلامية منها. وقد كان عليّ من بناة الدولة وأول أبطالها الذين تعرضوا للموت مرارا في سبيل بنائها، فلمّا أن جاءه الثوّار من ناحية ما يحيط بها من الأخطار ثار قلبه ونسي كل ما يمكن أن يلقى في سبيل الدفاع عنها، وقبل ما يعرضه الثوّار، وكان عن الخلافة راغبا. وقال عند ذلك كلمته القصيرة الكبيرة الدلالة:(قد أجبتكم لما أرى، وأعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وان تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلاّ أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم).
على أن هذه الثورة وإن كانت في مظهرها هدماً قد كانت في الحقيقة بناء له خطر عظيم في دستور الدولة العربية. فقد أظهر العرب بعنف أن الخليفة إذا قبل شرط المبايعة كان لزاما عليه أن يفي بما تعهد به، وانّه إن لم يفعل كان للشعب أن يعزله. فإن أبى أن يعتزل أو يعتدل كان للشعب أن يثور عليه. وإذن كان على الخليفة الذي يلي أمر العرب بعد ذلك أن يحتاط ويحترس في السير على منهاجه الذي بايع عليه. وبذلك تم بناء الدستور العربي الأول على أسس واضحة صريحة، فقد كان اختيار الخليفة في ذلك الدستور من حق العرب جميعا، ولكن السنّة التي سار عليها خلفاء العرب الأوائل جعلت اختيار الخليفة محصوراً، فما كان الخليفة ليختار إلاّ من قريش. وكان الخليفة يختار ممن تتوافر فيهم شروط الرجولة التامة والعدل الذي لا يعرف ميلا، وكان أساس الاختيار أن يعمل الخليفة بمقتضى برنامج صريح قائم على أحكام الكتاب والسنة والاستنارة بسنن الخلفاء الماضين. وكانت المبايعة من جانبين: جانب الشعب وجانب الخليفة فإذا خالف الخليفة شروط المبايعة كان للشعب أن ينقده ويطلب إليه الرجوع إلى المنهاج القويم وإلاّ كان له أن يثور عليه. ولم يقف نمو هذا الدستور بعد ذلك لنقص في القوة الحيوية في الشعب العربي. بل قد