ولا تنازع فيها بين جانبي العدل والميل الطائفي، فأمّا أن تكون عقلية دنيوية محضة تسير على الميل الطائفي والأثرة ولكنها تسير قُدُماً بغير تردد، وأما أن تكون عقلية عادلة محضة تسير مع العدل قدماً بلا تردد، وأما عثمان فقد كان قلبه مملوءاً بفكرة العدل، ولكنه كان لين العاطفة يصل قرابته، ولا يستطيع إلاّ أن يكون مائلاً نحو من لهم به مساس من رحم. فتردد بين الدافعين المتضادين، وكانت الكارثة من وراء هذا التردد.
ولما تم الأمر عاد الثوار إلى أنفسهم وكأنهم يريدون إنقاذ الموقف فقضوا أسبوعاً يبررون فعلهم، ويعرضون الخلافة على الزعماء. وقد أرادوا ألاّ يبعدوا عن السنن التي اختطها السلف وألاّ يحيدوا عمّا سار عليه العرب في بناء دستورهم منذ كانت دولتهم، فرأوا أن يرجعوا إلى آخر خطوة من خطى ذلك الدستور قبل الثورة، ألا وهي خطوة الشورى. ولم يكن الوقت ليسمح لهم بالسير بعد ذلك خطوة أخرى جديدة في سبيل تقدم ذلك الدستور وهي الخطوة التي كانت تنتظر لبلوغ نظام كفيل بتمثيل العرب واختيار أليقهم للخلافة إذ أنّ ذلك كان يستلزم الهدوء والاستقرار. فلمّا لم يستطيعوا السير إلى الأمام عادوا إلى حيث كانوا ورجعوا إلى المرشحين للخلافة بعد مقتل عمر. وكان بعضهم قد لحق بربه مثل عبد الرحمن بن عوف وكان بعضهم بعيدا عن المدينة، وهو الزبير. فعرض الخلافة على طلحة فأبى وكره أن يتقدم في مثل هذا الظرف خوفاً من التهمة، إذ كان ممن ظهر منهم التحريض الصريح على عثمان، وأمّا سعد بن أبي وقاص فقد كان أخرج نفسه منها منذ حادثة الشورى وأبى أن يعاود نفسه في ذلك الأمر، فلم يبق من المرشحين للخلافة من أهل الشورى إلاّ علي (ع). وقد عرض الثوّار الخلافة عليه فلم يرض بادئ الأمر، وأبى كل الإباء أن يقبلها.
وكان عليّ عند مقتل عمر (رض) أول المرشحين للخلافة، ولولا أنّه أبى أن يقيد نفسه بغير كتاب الله وسنة نبيّه، ورفض أن يحرم نفسه الاجتهاد على هذين الأساسين فيما يقابله من مسائل الدولة لكان هو الخليفة بعد عمر. ولمّا رأى الثوار أن كل أهل الشورى لا يواتونهم فيما يطلبون عادوا إلى عليّ وغيروا لهجة عرضهم وخاطبوه بما وجد في قلبه موقعا. وذلك أنهم بدءوا يظهرون لهم حال الدولة الإسلامية، وقد مضى عليها أسبوع بغير خليفة، وحدودها ممدودة إلى أعداء كثيرين. وإذا استطال الأمر بها لم يؤمن عليها من