فأنّا نذكر القراء بما كان من عبد الرحمن بن عوف وهو كما نعلم صاحب اليد في اختيار عثمان. فأنه غير متهم إذا هو قام يذكر عثمان بما وجب عليه. ولقد بلغ به الأمر أن خاصم عثمان وحلف ألا يكلمه بكلمة حتى يفرق بينهما الموت، وقد بر بقسمه فقد قيل إنه لمّا حضرته الوفاة دخل عليه عثمان عائداً فأدار وجهه إلى الحائط ولم يكلمه. وذلك موقف كان يدعو إلى ترك الخلاف لو لم يكن الأمر قد بلغ حداً لا يرتاح الضمير إلى التساهل فيه. وإذا شئنا أن نكرر الأمثلة التي تدل على انحراف زعماء الصحابة عن عثمان في آخر الأمر لم نضق بالأمر، فقد غضب طلحة حتى كان فيمن يحرض على عثمان تحريضاً شديداً، وغضب عمار بن ياسر وبلغ الأمر بأبي ذر الغفاري أن نفي من المدينة، ولكنه لم يكن راضياً وإن لم يظهر شيئاً من غضبه بأكثر من كلمات قالها لعثمان أو لبعض أهله. ولقد كان علي (رض) في أشد المواقف فأنه كان في حيرة بين واجبه نحو صديق آخى بينهما رسول الله (ص)، وبين واجبه نحو العدل وهو بقية العهد الأول من عهود الإسلام، وهو البطل الذي ما كان يرضى بالحيد عن العدل مهما كان في سبيل ذلك من الأخطار. على انه كان مع ذلك يحاول أن يحمل الخليفة على الإصلاح لكي يتحاشى النكبة التي لاحت في الأفق.
وأما الأمر الثاني وهو حسن نية الثوار فليس أدل عليه من أنهم لم يرضوا بترك الأمر فوضى بعد قتل الخليفة، بل كانوا يعرضون الأمر على الزعماء. ويظهرون لهم وضوح حجتهم في ثورتهم، ولم يفكر أحدهم في أن يذهب إلى مصره ليضرم فيه النار، أو أن يهرب إلى بلده قبل أن يستقر الأمر ويتدارك ما كان من الخطب، فلم يكونوا بالمجرمين الذين متى تمت جريمتهم فزعوا هاربين من ضوء الشمس يحاولون أن يدخلوا في غمار الناس حتى لا تنالهم معرة فعلهم. فكانوا أشبه الناس بأصحاب يوليوس قيصر عندما قتلوه وقاموا بين الناس معترفين بما أتوه، وبأنهم إنما فعلوا فعلتهم دفاعاً عن الحق والحرية.
قتل الخليفة ولكن قتله كان غير مدبر تدبيراً محكماً نتيجة تفكير طويل، بل جاء عندما فزع الثوار إذ بلغهم أن الجيوش الموالية له تتحرك نحوهم لتبطش بهم من أنحاء الأمصار. وقد ذهب الخليفة ضحية الظروف القاسية التي كانت تخيم على دولة العرب والتي كانت تحتاج إلى رجل له عقلية غير عقلية عثمان. عقلية محضة لا تردد فيها بين العواطف المختلفة،