سابق الغربي واسبق واعتصم ... بالمرؤات، وبالبأس اعتصاما
جانب الأطماع وانهج نهجه ... واجعل الرحمة والتقوى لزاما
ومتط العزم جوادا للعلا ... واجعل الحكمة للعزم زماما
ومع هذا الفقر الذي ساءل من اجله السراة والمترفين، والذي من أجله حبب الهجرة ودعا إلى الارتحال ابتغاء الرزق، ومع حاجته إلى الأنصار والأعوان يمدون له يد المساعدة، ويقدمون له العطايا، فانه جد حريص على كرامته، يحتفظ بها ويرعاها
ولقد راق لديه ما فعل (فيكتور هيجو) بعد أن زج في السجن، وحشد في زمرة السفاكين والمجرمين، وأراد الولاة الغاصبون أن يمنوا عليه بالعفو، فأبى واستكبر أن تسدي إليه العفو يد مذنب أثيم:
عاف في منفاه أن يدنو به ... عفو ذاك القاهر المغتصب
بشروره بالتداني ونسوا ... انه ذاك العصامي الأبي
كتب المنفى سطراً للذي ... جاده بالعفو فأقر أو اعجب:
أبريء عنه يعفو مذنب؟ ... كيف تسدي العفو كف المذنب؟
وكثير من العلماء النابهين، والشعراء والكاتبين، والأئمة والزعماء، درجوا في منابت الفقر، وقاسوا محن العيش، فطلبوا الجاه في العلم، والشرف في الكرامة، والهيبة في الإباء، وخلقوا لأنفسهم مجداً لا يقاس به عرض الدنيا: فلقد كان بشار بن برد الشاعر النابه منى أوئلكم الفقراء، إذ كان أبوه طياناً يضرب اللبن، وكان أبو العتاهية يبيع الفخار بالكوفة، والجاحظ يبيع الخبز والسمك، وأبو تمام يسقي ماء بالجرة في جامع مصر، كما كان أبو حنيفة بزازاً، وكما هو مشاهد الآن في زعامة الأمم الراقية أمثال روزفلت، وهتلر، وموسوليني
إن الظروف القاسية تحطم عظماء الرجال ولكنها لا تجرؤ أن تحطم التفاؤل عند المتفائلين، وهؤلاء الذين يجالدون آلام الجوع والمسغبة، وفي قلوبهم إيمان وفي ضمائرهم حياة، ليس شيمتهم التفاؤل فقط، ولكنه التفاؤل الرخيص
وكان حافظ رحمه الله أحد هؤلاء المتفائلين، كما ينطق بذلك شعره صريحاً بينا:
على أنني لا أركب اليأس مركباً ... ولا أكبر البأساء حين تغير