الماضي المجيد، ما خيله لهم أهواؤهم من أمانيّ وأحلام.
لست أدري ماذا ينقم القوم من الشعر؟ وهو الذي ساير الدهر قرونا طوالا، وماشى الحضارات على اختلافها، واتسع للأغراض الشعرية على كثرتها، واستقبل حكمة العرب واليونان بعزة الواثق بنفسه، المعتز بقوته، فما دعاه غرض إلاّ لبّى، وما أهاب به جديد إلاّ استجاب، وما سمعنا أنه قعد عن حكمة المتنبي وأبي تمام، ولا تخاذل دون مباهج الحياة وأغراضها في بغداد والأندلس، ولا قصّر يوم طلب إليه ترجمة (الإلياذة). ولا يوم دعي لنظم (قمبيز) و (كيلوباترا)، بل ما رأيناه نفر ممن حمّلوه ما لم يخلق لأجله فضموا به العلم، وأطالوا به المتون، فالشعر العربي خصب بطبيعته، قابل للتجديد ومسايرة الزمن، ولكن في حدود العقل والمنطق، وفي حدود السليقة العربية، والحضارة العربية.
فماذا يريد القوم بعد ذلك؟ وأيّ غرض يرمون إليه؟ ماذا يريدون بمجمع البحور، وهو نوع لاحظ له من النغم الموسيقي، الذي هو روح الشعر، وسر تقدمه على النثر، هو لون من القول يريد أن يخدع الناس عن نفسه فلا يلبثون أن يعرفوا حقيقته، ويدركوا أنّه لا إلى الشعر ولا إلى النثر.
لقد أبان لهم (الدكتور الفاضل) أن هذا بدع من القول لم تعهده اللغات الأخرى، ولم ينزل إليه شعراؤها النابهون، أمثال (شكسبير) وصاحب الشاهنامة، وعهدنا بأصحاب هذه الدعاوى، إذا أخذهم الدليل أن يتشبثوا بأهداب التجديد، ويجروا وراء الأدب الغربي، فإذا كانت حجتهم داحضة، وأسبابهم واهية، وإذا كان فحول شعراء اللغات الأخرى لم يسفوا إلى (مجمع البحور) فماذا عساهم يقولون؟ ما أظن الباعث لأكثر هؤلاء إلاّ الطموح إلى الشهرة وذيوع الصيت، يستهينون في سبيله بلغتهم، وهي مناط العظمة، وديوان المفاخر، ومظهر الكرامة والعزّة القومية، هم يحسدون الشعراء على مكانتهم! ويحاولن ألاّ يقصروا في كل مظاهر العظمة، فيتعلّقون بأهداب الشعر، فإذا هو نافر منهم، ويرون معاناة الشعر أمراً عسيراً على طبائعهم، شديداً على نفوسهم، ويدركون أن العقبة الكؤود دون الذي يريدون، قوانين دعت إليها طبيعة الشعر كفن من فنون الموسيقى، وأقواها في نظرهم وحدة الوزن والقصيدة أو ما يعبّر عنه بالبحور، فلا يهدأ لهم بال، ولا يقر لهم قرار حتى ينفّروا الناس من هذه القوانين لعلهم أن يحطموها، فتصير طريق الشعر في زعمهم واضحة معبّدة، وعند