أولم يسمع عبد العزيز بن الماجشون أن قد سال العقيق، وهو خارج من صلاة الصبح، فلا يتريث ولا يمر بداره، ويمضي إليه من ساعته، فيلهو فيه بعض اللهو، ويسمع فيه الغناء، وهو هو في مكانته ووقاره؟ فكيف بعامة الناس وشبابهم؟
خرجنا مع من خرج، فلم نجاوز السور ونترك عن أيماننا المحطة العظيمة، الخالية الخاوية، الكابية الباكية، التي أضاعها أهلوها، وأهملوها حتى نسوها. . . حتى بدت لنا الحرة السوداء الواسعة فسلكنا طريقاً فيها جديدة، على يسار الطريق القديمة التي تهبط الحرة على سلم منقورة في الصخر، وهذه النقرة هي ثنية الوداع، التي طلع منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبله الولائد بالدفوف ينشدن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
والتي منها أشرق (البدر) على القلوب والعقول، فأنارها فهي منه في نور إلى يوم القيامة!
وسرنا في هذه الطريق نحواً من كيلين اثنين فانتهينا إلى بئر عروة، التي حفرها الإمام الزاهد العلم عروة بن الزبير، فكانت في قصره العظيم الذي اندثر، ولم يبق له من أثر، وهي أعذب بئر في المدينة وأطيبها، وكان ماؤها يحمل إلى الرشيد في قوارير وهو مقيم في الرقة؛ وإلى جانب البئر قهوة جديدة، قامت على جذوع النخل، فجلسنا فيها على كراسي مستطيلة، تتخذ في مقاهي الحجاز مجلساً وسريراً، تطل على الوادي العظيم
والوادي رغيب، بين عدوتيه أكثر من مائة متر، وعلى العدوة الأخرى جبال حمراء جميلة المنظر، وقد غنى الوادي وامتلأ، والسيل دفاع يلتطم آذيه، وتصطخب أمواجه، يرمي بالزبد، ويطوح بالفقاقيع، ويجري متكسراً وله خرخرة، وله دردرة، وعلى جانب الماء حصباء واسعة، قد جلس فيها المدنيون حلقاً، يحفون بـ (سماورات) الشاي البراقة العالية، ويغنون ويطربون، ما سمحت لهم (الحكومة) أن يغنوا ويطربوا. . .
جلس إخواننا يتجاذبون أطراف الحديث، فيذكرون بلادهم وأوطانهم، ويحنون إلى الغوطة الغناء، والعين الخضراء، والزبداني وبلودان، وتلك الجنان، وجلست أحدق في ماء العقيق، وأحن إلى أيامه الغر، وماضيه الفخم، وأفكر في حاضره الممض، وودايه القاحل، فأطيل التحديق، وأمضي في التفكير حتى أذهل عن نفسي، وأنسى مكاني، فأرى صفحة الماء