وهناك بابان من أبواب الشعر كان مجرد بقائهما عامل تقليد ومحافظة في الأدب: هما المدح والهجاء المتكلفان طلبا لصلات الممدوح أو لهبات خصم المهجو، فقد كان الشاعر مثلا يمدح قائد الخليفة أو وزيره مادام مرضيا عنه، فان نكب تقرب الشاعر إلى الخليفة بذمه؛ وقد كان أكثر المدح والهجاء من هذا النوع المتكلف المستمنح، وما لم يصدره الشاعر عن شعور حقيقي فسبيله فيه أن يحاكي ويأخذ ممن تقدم نقصا وزيادة وتخريجا وتوليدا، لذلك ظلت معاني المدح والهجاء وتشبيهاتهما في مختلف العصور تحوم حول أقوال المتقدمين، وأثر هذا جلى في جمود الأدب وتقيده بالقديم بدل اتجاهه إلى مناح جديدة
ثم هناك عامل كبير بين عوامل محافظة الأدب العربي، هو اعتزال ذلك الأدب غيره من الآداب، فالأدب ككل كائن حي يجمد ويتضاءل إذا لم يتصل بغيره، فتتجاوب الاحساسات والأفكار، وقد كان من أكبر عوامل رقي الأدب الإنجليزي وتطوره اتصاله بالآداب المعاصرة ورجوه إلى الآداب الكلاسية، أما الأدب العربي فلم يكن له مرجع عدا ماضيه، فظل دائما ينظر إلى الخلف بدل أن ينظر إلى الأمام، ولو استفاد من الأدب الإغريقي مثلا لكان له تاريخ غير تاريخه المعروف
كل هذه عوامل سياسية واجتماعية وأدبية أدت إلى ضعف رغبة التجديد واستفحال نزعة التقليد في الأدب العربي، ومن ثم ظل طوال العصور يردد ألحانا بعينها حتى بلغ ما يمكن أن يبلغه مثله من الرقي، ثم انحدر في طور تدهوره الطويل، وكان من أكبر عوامل هذا التدهور تغلب نزعة التقليد فيه على نزعة التطور.