تشبعه بحضارة الأقدمين وعلومهم، ولم يختلف عليه من الأحداث الاجتماعية والسياسية ما تترك صداها في الأدب: فقد كانت القصة من أولها إلى آخرها على وتيرة واحدة: أسر وأمراء يتوارثون الحكم ويتجاذبونه، وأمم مكفوفة عن شؤون الحكم إلا أن تثور ثائرتها في الفينة بعد الفينة فتقمع وتعود الأمور إلى وتيرتها، وما من نزعة جديدة أو اتجاه جديد يحول عنان الأمور إلى غير ما هي سائرة فيه
والأدباء أنفسهم كانوا منعزلين بآدابهم عن مجتمعهم قلما يعبرون عن أمانيه أو يحاولون قيادته، وكانوا أقرب مكانا إلى الأمراء منهم إلى صف الشعب، لأنهم كانوا يعتمدون على الأولين في معاشهم
ثم إن قيام الإمبراطورية الإسلامية أدى من بادئ الأمر إلى نتيجتين كانت كلتاهما ذات أثر بالغ في الأدب العربي، وكانتا عاملي محافظة وتقليد فيه: وهما فساد اللغة الفصحى تدريجيا، ودخول الأعاجم في اللسان العربي
فان فساد اللغة تدريجيا جعل الأدباء يحتذون دائما حذو المتقدمين من العرب الأقحاح، ويتخذون من كلامهم نماذج وشواهد، وصار حسب الشاعر المتأخر أن يجاري المتقدمين في جزالة القول وإحكام النسج ليكون قد بلغ مبالغ الشاعرية، ولا يكاد يخطر له أن يبرز على أولئك المتقدمين ويبتكر ما لم يعرفوا، وهو وإن لم يرد إلا محاكاة أسلوبهم إلا أن ذلك مؤديه حتما إلى محاكاة أفكارهم، ومن ثم التقليد والمحافظة
والأعجام الذين دخلوا في اللسان العربي انكبوا كذلك على دراسة المتقدمين وانصرفوا إلى محاكاتهم تقويما لعربيتهم وطلبا لأسرار اللغة وقواعدها؛ ولا يخفى أن كثيرا من أقطاب الأدب المتأخرين كانوا من هؤلاء الأعجام المستعربين، فكان تأثيرهم في الأدب تأثير محافظة وتقليد ونظر إلى القديم
وقد تزايد تبجيل كل ما ورد عن المتقدمين حتى قارب منزلة التقديس وإن قام من الأدباء من ينكره ويثبت الفضل للمتأخرين، وكان من آثار هذا التقديس وهذه المحاكاة الدائبة ما نرى في الأدب العربي دون غيره من الآداب من ظواهر بتراء ليست من التعبير عن الواقع ولا من الابتكار في شيء: كالغزل الاستهلالي، وذكر الإبل والحداء والبيد، ومعارضة القصائد المشهورة بمماثلاتها في الغرض والوزن والقافية