المقدورة المتعينة، فلا الخلق يتركونك لنفسك، ولا الخالق تارك نفسك لك. . .) فمن ثم ترى الرافعي دائما يحسن الظن بالغد ويراه خير أيامه، فهو يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذة يشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيرا يترقبه ويهيئ له، وهو يفصح عن ذلك المعنى في مقالاته: سمو الفقر، وحديث قطين، وبين خروفين، والانتحار، وكتاب المساكين، أدق إفصاح وأبلغه
ولعل أحدا لا يعرف أن الرافعي لا يرى في تلك العلة التي أودت بسمعه وهو غلام بعد، إلا نعمة هيأته لهذا النبوغ العقلي الذي يملي به في تاريخ الأدب فصلا لم يكتب مثله في العربية منذ قرون. ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدر وقانون التعويض، يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن، فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه. . .
حياته الخاصة:
وبعد، فأنا قد رأيت الرافعي يكتب، وجالسته وهو يفكر، وجلست إليه ليملي علي، وصحبته في غدواته وروحاته، وأشركني في مطالعاته، وأخذ مني وأعطاني؛ فمن حق العربية علي أن أصف بعض ما أستطيع مما رأيت
وحياة الرافعي بسيطة كل البساطة؛ فهو في أشيائه بعيد كل البعد عن التأنق، ولا يعتد بالعرف اعتدادا كبيرا. تراه في الديوان، وفي البيت، وفي الشارع، وفي القهوة - رجلا كبعض من تعرف. ولو أنك ذهبت إليه في الديوان، ورأيته جالسا إلى مكتبه، يوقع على هذه الورقة، ويراجع تلك الحسبة، ويحادث الناس ويحادثونه. . . لشككت أن يكون هذا هو الرافعي؛ وقد يميز مكتبه عن مكاتب غيره من الموظفين بضع صحف مركومة إلى جانب، أو كتاب جديد مستند إلى كتاب، على أنه في عمله معروف بشدته وعنفوانه، وكثرة دلاله أيضا. . .!
وفي البيت قلما تجد الرافعي إلا جالسا إلى مكتبه مطالعا أو كاتبا، وتكاد غرفة كتبه أن تكون كل نصيبه من الدار. . . وله صبرا عجيب على العمل؛ فهو حين يجلس للمطالعة قد يظل ثماني ساعات لا يزايل موضعه. ولا يسهر خارج الدار عادة إلا ليلة أو ليلتين في الأسبوع، وسائر لياليه عمل مستمر في الكتابة أو المطالعة؛ ويندر أن يأوي إلى فراشه ليلة قبل الثانية عشرة؛ وقد كان له عناية كبيرة بالرياضة البدنية إلى عهد قريب، وهو يحاول