يلتمس من الطبيعة مسكناً وملبساً يدفعان عنه الفقر والهجير.
والحاجة العقلية تريده على أن يمعن النظر ويستقصي البحث في مظاهر الكون، لان العقل لا يقنع بالنظر إلى الأشياء الخارجية دون أن يتتبع العلل ويكتشف القوانين العامة التي تنتظم جميع الجزئيات، فهو مطبوععلى هذا البحث ليخفف عن نفسه أعباء الحقائق الكثيرة التي تصادفه في حياته، باختزالها في عدد قليل من القوانين، أو في قانون واحد شامل إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
وليست حاجة الإنسان تقتصر على العقل والجسد، بل هو يحمل بين جنبيه نفساً لها مطمح تنشده وتسعى إليه، فهي بدورها مضطرة إلى أن تتصل بالكون كي تلتمس عند مظاهره ما تصبو إليه، وهي بحكم وجودها تعالج ضروباً من المشاعر، فهي تموج بالأمل واليأس والسرور والغضب وغير ذلك من ألوان الشعور.
ولكن هذه الروابط التي تصل الإنسان بالعالم لا تقتصر عليه دون سائر الحيوان، فهو يشاركه في الحاجة الجسمية ويشاركه في الحاجة العقلية - إن صح إطلاق هذه الكلمة على الحيوان الأعجم - كما يشاركه في مشاعره النفسية كذلك، إلاّ أن أهم ما يرتفع بالإنسان عن مرتبة الحيوان، إن هذا محدود في دائرة ضيقة جداً، لاتسع لأكثر من الضرورات التي يقتضيها استمرار الحياة، فهو يبذل ما يبذله من مجهود لحفظ كيانه، والاحتفاظ بجنسه، ثم لا يزيد على ذلك إلاّ بمقدار ضئيل، أما الإنسان فلا تكلفه الضرورة إلا بقدر محدود ثم يبقي لديه من القوة ما يجول به حرا من الأصفاد والقيود، مثل الحيوان في ذلك، مثل الزارع الذي ينوء بأعباء الدّين الفادحة فهو يكد ويكدح ويعمل ويشقى طول العام، فإذا ما حان الحصاد تسرّب الثمر إلى الدائن، ويخرج صاحبنا من المعركة صفر اليدين، أما الإنسان فهو في هذا التشبيه صاحب ضيعة واسعة النطاق، لا يفقد من دخله إلا جزءاً يسيرا، ثم ينعم بعد ذلك حرا لا يقف دونه سلطان ولا رقيب، أي إن لديه من ثروة الحياة ما يزيد على الحاجة الضرورية بقدر عظيم، وبذلك يتاح له من القوة والفراغ، ما يستطيع معه أن يعالج مختلف الشئون، لا باعتبارها واجباً حتماً تمليه ضرورة الوجود، ولكن على أنها أغراض في نفسها تقصد لذاتها.
فللحيوان مقدار من المعرفة ولا ريب، إلا أنها معرفة ضئيلة محدودة، يستخدمها في حفظ