الحياة وكفى، فهو ملزم أن يدرس بيئته في شئ كثير من الدقة ليستطيع أن يتخذ لنفسه من أركانها مستقراً يؤويه، وليتمكن من الحصول على طعامه وشرابه في سهولة ويسر، وهو ملزم كذلك أن يعلم بعض خواص الأشياء من حيث اللدونة والصلابة مثلاً، ليبني ما يشاء من أوكار، ويعالج شؤون الحياة الأخرى، وهو لابد أن يعرف للفصول المختلفة علامات تدل على قدومها. حتى يتهيأ لأجوائها المتباينة بالريش أو الفراء، هذه وأشباهها معرفة لا ندحة عنها لكل أنواع الحيوان للذود عن كيانها والاحتفاظ بوجودها. ولكنها لا تزيد على ذلك إلاّ قليلا. والإنسان أيضاً. لديه تلك المعرفة اللازمة لاستمرار الحياة - حياة الفرد والجنس - ولكن معرفته لا تقف عند هذا القدر القليل، بل تفيض معرفته فيضاً غزيراً يطغى على تلك الحدود الضرورية، فهو يحصل جانباً من المعرفة لذاتها، وينشد العلم لأجل العلم، لا يبغي وراء ذلك قصداً ولا غاية. ومن هذا الفيض العلمي تنشأ الفلسفة والعلوم.
وللحيوان جانب خلقي غير منكور، فلديه كثير من الإيثار تراه واضحاً في حنان الأم على صغارها أيا كان نوعها ويبدو ذلك الإيثار بارزاً في هذه النحلة العاملة، وتلك النملة المثابرة، فهما تسعيان وتطوفان هنا وهناك، تجمعان القوت، ولكن لماذا؟ لخلية النحلة كلها أو لجماعة النمل بأسرها. وهذا المقدار الضئيل من الأخلاق، إنما أوجدته ضرورة الحياة عند الحيوان، أما الإنسان فقد رسم لنفسه من التشريع الخلقي ما يربي على حاجته الضرورية أضعافاً مضاعفة، فهو يفرض نفسه على الخير لأنه صالح للجماعة أولاً، ولكنّه لا يكتفي بهذا الفرض المتواضع، بل يمعن في ذلك إمعاناً بعيداً، فينشد الخير محضاً ويطلبه لذاته فقط ومن هذا الفيض الخلقي، نشأ علم الأخلاق.
وللحيوان شعور يحسه ويعبّر عنه، فهو يبغض ويحب، وهو يسر ويحزن، وهو يأمن ويخاف. ولكنه كذلك لا يعدو في التعبير عن مشاعره ذلك الحد الذي تقتضيه ضرورة الحياة. أما الإنسان، فعواطفه - وان تكن قد نشأت في الأصل لتلك الأغراض التي نشأت من اجلها عواطف الحيوان - إلا إنها قد جاوزت ذلك الحد تجاوزاً، وتركت في الأرض جذورها الأولى التي أخرجتها إلى الوجود، وانبسقت عالية منتشرة بغصونها في سماء اللانهاية، نعم لدى الإنسان من العواطف أضعاف أضعاف ما تتطلبه طبيعة وجوده، وهذا الفيض الغزير العميق من المشاعر التي تضطرم وتحتدم في الصدور لابد أن يجد متنفسا