حتى أسترابوا به، وأحاطوه بجواسيسهم الذين بثوهم في الناس لإرهابهم بإلصاق تهمة الزندقة بهم، إذا رأوا فيهم ميلا إلى أعدائهم، فعاش أبو العتاهية في بغداد تحوم حوله هذه الشبهة من أجل تلك الغاية السياسية، واغتر بها بعض الناس فطعنوا بها في عقيدته، وهو أبعد الناس من تلك التهمة الشائنة؛ وقد أمكنه مع هذا أن يقوم بتلك الدعاية الشعرية التي فهم العباسيون غرضه السياسي منها، وأنه يقصد محاربة دولتهم بذلك السلاح الذي أعياهم أمره، وجعل يفتح أعين الناس إلى عيوبهم فلا يعرفون كيف يكسرونه من غير أن يفتضح أمرهم، ولم يجدوا إلا أن يداوروا في أمره، ويأخذوا صاحبه بالشدة مرة وباللين أخرى، ويشككوا الناس في أمر عقيدته ليضعف أثر شعره فيهم، ولا يصل إلى ما يريده منهم، فكانت محاربة بارعة من الجانبين، قام فيها الدهاء السياسي مقام السيف، وأدى فيها أبو العتاهية رسالته الشعرية بدون أن يمكن سيف العباسين من رقبته، وعملوا هم على إفساد غايته بدون أن يفضحوا أمرهم أمام الناس بسفك دمه لأنه ينشر فيهم تلك الدعاية المحبوبة، ويحاول إصلاح نفوسهم بالزهد الذي بعدوا عنه كل البعد، وشغفوا بدنيا العباسيين كل الشغف، وإنا نسوق بعد هذا بعض ما كان يلقاه أبو العتاهية في ذلك لنعرف كيف كانوا يتكلفون إلصاق تلك التهمة به
ذكر النسائي عن محمد بن أبي العتاهية أنه كان لأبيه جارة تشرف عليه، فرأته ليلة يقنت فروت عنه أنه يكلم القمر، واتصل الخبر بحمدويه صاحب الزنادقة، فصار إلى منزلها ليلا وأشرف على أبي العتاهية فرآه يصلي، فلم يزل يرقبه حتى قنت وانصرف إلى مضجعه، وانصرف حمدويه خاسئا
ومن من كان يشنع على أبي العتاهية بهذا رجاء بن سلمة ومنصور ابن عمار، وقد حدث العباس بن ميمون عن رجاء قال: سمعت أبا العتاهية يقول: قرأت البارحة عم يتساءلون، ثم قلت قصيدة أحسن منها. قال وقد قيل إن منصور بن عمار شنع عليه بهذا. ولما قص منصور على الناس مجلس البعوضة قال أبو العتاهية إنما سرق منصور هذا الكلام من رجل كوفي، فبلغ قوله منصورا، فقال أبو العتاهية زنديق، أما ترونه لا يذكر في شعره الجنة ولا النار، وإنما يذكر الموت فقط، فبلغ ذلك أبا العتاهية فقال فيه:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ... إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها