الفترة، وثورات الجند المتكررة، واضطراب الشؤون العامة، وفقدان الأمن، وغلبة الفوضى؛ هذه كلها تزيد مصر ضعفاً على ضعفها، وتدفعها إلى التطلع إلى مصير أفضل من هذا المصير
وبينما كانت الدولة العباسية تجوز مرحلة اضطراب وضعف، كانت دولة خصيمة فتية هي الدولة الفاطمية تسير مسرعة إلى النماء والتوطد؛ وكانت القبائل البربرية التي شدت أزر الفاطميين، وأقامت ملكهم فوق ملك الأغالبة، تحتفظ في هذا القفر بخشونتها وبأسها بعيدة عن تلك العوامل الرخوة التي تحمل عناصر الهرم والفناء إلى دول ومجتمعات يغمرها تيار الحضر والنعماء والترف؛ ولم تكن المعركة الهائلة التي اضطرمت مدى حين بين الدولة الفتية وبين القبائل الخصيمة، وكادت تسحقها في المهد، إلا لتذكى فيها رغبة الحياة وعزم النضال؛ وقد خرجت من المعركة ظافرة قوية، ولكنها أدركت في نفس الوقت فداحة الخطر الذي يهددها من تمرد أولئك الخوارج الأشداء؛ ومع أن الفاطميين استطاعوا فيما بعد أن يدوخوا قبائل المغرب كله وأن ينفذوا بفتوحاتهم في المغرب الأقصى حتى المحيط، فأنهم لم يطمئنوا إلى البقاء في تلك الوهاد الوعرة، ولم يعتبروا أنهم وصلوا بإقامة ملكهم في أفريقية إلى ذروة الأماني والغايات
كانت مصر تلوح لهم خلال هذا القفر النائي درة خضراء؛ وكانت مصر في نظرهم هي ميدان المعركة الحاسمة التي يضطرمون لخوضها مع الدولة العباسية - خصيمتهم السياسية والمذهبية - وقد حاولوا خوضها منذ الساعة الأولى، فزحفوا على مصر أكثر من مرة كما قدمنا، وكما سنفصل بعد؛ ولكن فرصة الظفر لم تكن قد سنحت بعد، واستطاعت مصر بجندها وجند الخلافة أن ترد الغزاة، وشغل الغزاة مدى حين بما يهددهم في أفريقية ذاتها من خطر الانتفاض والفناء. وفي تلك الفترة تطورت الحوادث في مصر وسارت إلى مرحلة جديدة من الاستقرار في ظل الخلافة أيضاً؛ وانتهت المنافسات والثورات العسكرية المتكررة بفوز محمد بن طغج الأخشيد بولاية مصر للمرة الثانية في سنة ٣٢٣هـ (٩٣٥م) من قبل الخليفة القاهر؛ وكان قد وليها لأول مرة قبل ذلك بعامين ولكنه لم يدخلها ولم تطل ولايته أكثر من شهر؛ فلما وليها من قبل القاهر سار إليها من دمشق في قواته، فتعرض له أحمد بن كيغلغ حاكم مصر وقتئذ وحاول رده عن ولايتها بقوة السيف؛ ذلك لأن ابن كيغلغ