القصيدة ملتقى حاضره وماضيه، وفي هذا الملتقى مبعث لشعوره. إذ أنه كلما ذكر أيام الصبى اللذيذة اختلجت في نفسه عاطفة قوية وتملكه شعور لذيذ لا يتمالك من بعثه شعراً حياً لا أثر للكلفة فيه. وللذاكرة المقام الأول والفضل الأكبر في تصويره أحلام الطفولة وأيام الصبى، إذ لولاها لنضب معين شعوره وإنحبس لسانه عن التعبير عما يجيش في صدره من مشاعر وفي نفسه من خلجات، ووقف قلمه عن وصف الأويقات العذبة الهنيئة التي قضاها تحت كنف أمه الرؤوم: الطبيعة بأبسط معانيها وأجلى مظاهرها. وهذه القصيدة مهداة إلى صديقه الشاعر كولردج، وتقع في عدة أبواب يختص الأول منها بحياة الطفولة، والثاني بحياة المدرسة، والثالث بالسنين التي صرفها في كمبرج، والرابع في حياة لندرة ومؤثراتها، والخامس بزيارته الأولى لفرنسا والألب وإقامته في فرنسا خلال الثورة الفرنسية، غير ذاكر شيئاً عن علاقته بأنيت فالون معشوقته المعهودة
أما (النزهة) ففيها يحلق الشاعر ويسمو في عالم الروحيات إذ هي مجلي تأملاته في الفلسفة والاجتماع وعلم النفس والصوفية، وفيها يطرق شتى الموضوعات العلمية البحتة، كتركيب العقل ونشوئه، وفلسفة العواطف، والتأمل؛ غير أنه يكسوها حلة من الخيال، ويعبر عنها بأبسط التراكيب وأسلس العبارات وأوضحها، هذا إذا ضربنا صفحاً عن جنوحه في بعض الأحيان إلى الغموض في المعنى. (والنزهة) تقع في تسعة أجزاء مقتضبة، كل فصل منها حاو لقسم من أقسام القصة التي يسردها ويجعلها هيكل هذه القصيدة الكبرى
وهو في جميع مباحثه هذه لا يتوخى غير الصدق وإظهار عظمة الخالق. أما مدار بحثه في هذه المواضيع فنفسه، لا لأنه صنع من جبلة غير التي صنع منها سائر البشر، بل لأنه أكثر علماً بنفسه من غيرها من النفوس
ولقد أثارت نظريته هذه وأشعاره جدلاً عنيفاً وبحثاً متواصلاً في البيئات الأدبية، فمن الأدباء من حمل عليه وطعن فيه، ومنهم من انتصر له. ومن الذين انتقدوه فرنسيس جفري وبيرون وهزلت، ومنهم أيضاً صديقه كولردج في فصل من كتابه (تراجم أدبية)، بيد أنه لم يكن هدّاماً في نقده ولا شديد التحامل عليه في تعليقه على آرائه كغيره من النقاد. أما إمرسن الكاتب الأمريكي الشهير فينتصر له، ويعدّ قصيدته (خواطر في الخلود من ذكريات الطفولة) التي تمثل عقيدة شاعرنا الفلسفية ونظريته الأدبية بعض التمثيل، من أروع بل