للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من هذه الأنساب الواضحة، والدوحة الباسقة، خرج عبد الله وورَّثه آباؤه وأقرباؤه جُل الصفات الممتازة التي تغَذى الطموح وتذكيه؛ وساعدت بيئته التي نشأ فيها على تنمية خلال البطولة والإقدام في نفسه، فامتاز بالفصاحة، وذلاقة اللسان، وقوة الحجة، حتى كان يعد من خير خطباء الإسلام؛ واشتهر كذلك فضله وزهده، وطول صيامه وقيامه، بين الخاصة والكافّة. أما شجاعته فحدِّثْ عن الليث ولا حرج! فهو الذي يقول: (ما أبالي - إذا وجدت ثلثمائة من الرجال، يصبرون صبري - لو أجلب بهم على أهل الأرض!!) ويشهد له أبو عبيد بأكثر من هذا فيقول (إن عبد الله كان لا يُنازع في ثلاث: شجاعة، وبلاغة، وعبادة) وتلك عدةُ الرجولة الكاملة، وخاصة في ذاك العصر

كان عبد الله أول مولود للمهاجرين بالمدينة عام الهجرة، فدرج بها، ونشأ فيها، حتى نال من التعليم المنتشر في عصره ما أكسبه ثقافة دينيةً محضة، فعرف الكتابة والقراءة، على طريقة عصره، وحفظ الكتاب، وروى الأحاديث؛ واقتدى في حياته وعبادته بمن كان يخالطهم ويعاشرهم من جلة الصحابة الكرام؛ فأثر هذا في أخلاقه تأثيراً كبيراً، كان من ثماره تلك النزعة، نزعة العبادة وطول القيام والتهجد التي غلبت عليه فيما بعد. وكان أهم ما يجذب النظر إليه وهو صغير، جراءته النادرة، وميله إلى العناد، مع الثقة بنفسه، والاعتداد بقوته؛ (كان ذات يوم يلعب مع الصبيان، فمرّ رجل فصاح بهم، ففروا ومشى عبد الله القهقري (بظهره) ثم قال: يا صبيان اجعلوني أميركم، وشدوا بنا عليه فنهزمه!). ومرَ به عمر بن الخطاب، وكان عبد الله مع صبيان يلعبون، ففروا وبقي هو؛ فقال له عمر: لماذا لم تفر مع رفاقك؟ فأجابه بجراءة وفصاحة: (لم أُجرم فأخافك، وليست الطريق ضيقة فأوسع لك). هذه أمثلة صغيرة، ولكنا نلمس فيها روحاً متحركة وثابة، في زمن الطفولة والتنشئة، ونستنبط منها أن للعظمة بوادر تلوح في الحوادث الحقيرة، كأنها إرهاصاتٌ لظواهر أخرى كبيرة، تكون حينما تكون عظائم الأمور، ومن هذه المثل وأشباهها نعرف أيضاً مدى اعتداده بنفسه، وثقته بها؛ ولا ريب أن الحبّة الجيدة إذا صادفت أرضاً خصبة فإنها تشق الأرض شقاً، لتحيا على أنضر ما تكون النبتةُ الطيبةُ حياة وبهجة!

ولما بلغ أشده وأطاق حمل السلاح، ثقف صناعة الحرب، ثم صحب الجيوش الغازية، وأبلى في العدوّ بلاء محمودَ الأثر؛ روى الزبير بن بكّار (أنه - عبد الله - قتل بيده في

<<  <  ج:
ص:  >  >>