فتح إفريقية أميرَ جيوش الروم) فأرسله عبد الله بن أبي سرح (وكان قائد جيش المسلمين) بشيراً إلى أمير المؤمنين عثمان، فلما سمع بشارته أعجبه كلامه وشجاعة قلبه، ثم سأله: أيمكنه أن يخطب الناس بمثل ما أخبره به؟ فأجابه: وما يمنعني من ذلك؟ ثم قام خطيباً، وتدفّقت من فيه آيات البلاغة، وأطنب في وصف الفتوح، وفصّل هزيمته العدو، حتى أسر القلوب، وأدهش السامعين، بفرط بلاغته وقوة عبارته، وتمكنه من ناصية القول والموقف؛ فقام أبوه وقبله بين عينيه، وانفضّ الجمع، وليس فيهم إلا معجبٌ ببيانه، مثنٍ على شجاعته
ولم أطلع في وصف عبد الله على عبارة وافية موجزة أبلغ من قول أبي عمرو بن عبيد:(كان عبد الله شهماً ذَكَراً ذا أنَفَةٍ، وكان له لَسَنٌ وفصاحة، وكان كثير الصلاة والصوم والعبادة، شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات).
بهذا الوصف الكريم الجامع أستأهل ابن الزبير أن يكون في الطبقة العالية بين رجال عصره، وما فتئ عثمان يتفرس في مخايله قوة الشكيمة، وفرط النبوغ؛ ويرمقه بعين ملؤها الحبُّ والرضا، حتى كان يوم الدار، فاستخلفه عليها قبيل مصرعه. . .
ومن ثمَّ دبَّ الطمع إلى قلبه في طلب الخلافة لنفسه، وأبقى ذلك سراً مكتوماً، ولكنه لم يأل جهداً في تحقيق هذا الحلم الجميل، الذي يلائم طبعه ويشبع رغباته الكامنة؛ ولم لا يكون خليفة وقد استخلفه أمير المؤمنين عثمان على داره التي هي دار الخلافة؟ ولِمَ لا يكون خليفة وجدُّه أبو بكر أول الخلفاء؟ بمثل هذا تحّدث إلى نفسه، ولكن أنىَّ له هذا، وفي القوم كثيرٌ ممن يكُفُّونه بمجرد وجودهم عن ذلك المرتقى السامي؟؟ وإذن فليرتقب سنوح الفرصة، وليأخذ أهبته ريثما تواتيه الظروف المسعدة، عسى أن ينال ما يبتغيه!! وقد قضت عليه سياسة الترقب هذه أن يناوئ كل خليفة يلي الأمر من بعد عثمان، فما هو أن بويع عليٌّ بالخلافة حتى قام عبد الله يؤلب عليه أهل الحجاز بزعامة أبيه الزبير وطلحة بن عبيد الله، وتحت راية خالته عائشة، وما كانت أم المؤمنين لتخرج من تلقاء نفسها لملاقاة عليٍّ بالعراق، وإنما زجها عبد الله ودفع بها في هذا المأزق الحرج، بعد أن بين لها فظاعة الجريمة التي ارتكبها الثائرون ضد عثمان، وبعد أن هوّل ما بينها وبين علي من الأحن القديم، فاستجابت طبيعة المرأة لما أُلقي إليها من دواعي الإغراء، وأجمعت أمرها على النزال، فقامت تخطب المسلمين، تحرضهم على الانتقام لعثمان. . . . حتى كان ما كان يوم