الجمل. روى المسعودي (أن عائشة قالت يوماً: إذا مرَّ ابن عمر فأرونيه، فلما مرَّ قالوا هذا ابن عمر؛ فقالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري إلى العراق؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك، ورأيتك لا تخالفينه!! (يعني عبد الله بن الزبير)
يؤخذ من هذا ومن قول الرواة أن عبد الله كان هو المحرك الخفي لجيش عائشة على علي، وأنه كان قطب الرحا يوم الجمل، والدافع له إلى هذا إنما هي نيته المستورة، ورغبته المكبوتة في أمر الخلافة
ثم تجري الأمور على قدر، ويتولى معاوية الأمر بعد مقتل علي، فيتمنى عبد الله أن لو كان معه جند يشد أزره أمام الخليفة الجديد! ولكن أنى له ذلك الآن! وقد انقسم المسلمون فرقتين، ظفرت سياسة إحداهما بزعامة معاوية، وخذلت الأخرى بمصرع ابن أبي طالب، فلم يبق إلا الإذعان للواقع، والحزم إذن في المداورة لمن يبغي أمراً جللاً كهذا، ولا بد حينئذ من المبايعة، مع الترقّب من جديد لفرصةٍ أخرى أمثل من هذه
بايع ابن الزبير معاوية، وفي نفسه غصة، ولقد كانت المطامع الكبيرة التي ينطوي عليها توقفه من معاوية موقف الند للند، بل موقف المشاكس المناقض، حتى ليهم الخليفة أن يبطش به، فلا يحجزه عن ذلك إلا مركز عبد الله من جهة، وخشية الانقلاب والفتنة من جهة أخرى، يروي أن معاوية حجّ سنة، ثم رحل إلى الشام ليلاً، فلم يعلم بسفره من غير خاصته إلا عبد الله، فقفا أثره على فرس ومعاوية نائم في هودجه، فانتبه على وقع الحافر، وقال من صاحب الفرس؟ قال أنا عبد الله! لو شئت يا معاوية قتلتك الآن!! (يمازحه بهذه الكلمة) قال معاوية لست هناك، ثم دار بينهما حوار طويل، وكان مما قال عبد الله: أفعلتها يا معاوية! أما إنا قد أعطيناك عهداً، ونحن وافون لك به مادمت حياً، ولكن ليعلمنَّ من بعدك!!! وفي هذا التهديد ما ينم عن ثورة عنيفة يتأجج بها صدر عبد الله، وإنما كان يكتمها إلى أجل؛ وكثيراً ما كان يضيق به معاوية فيغمز عليه عمرو بن العاص ليُحرجه ويستثير دفائنه، فيقع بينهما في مجلس الخلافة الجدال الشديد، والتفاخر بالآباء والأحساب، ولكن ابن الزبير كان يفحم عمراً بالقول الرادع، والحجة الدامغة. قال له مرة:(يا ابن العاص. إنما طال بي إلى الذُّرى مالا يطول بك مثله: أنفٌ حمي، وقلبٌ ذكي، وصارم مشرفي، في تليد فارع، وطريف مانع). فعبد الله - كما قلنا - يطوي نفسه على طلب الخلافة، ويستسر