الأمر، ولم يكن هذا ليخفى على أحد، حتى على الخليفة نفسه؛ وتتضح نيته، وتظهر مطامعه لمعاوية حينما يطلب منه أن يبايع لابنه يزيد. يروي الرواة أنه لما طلب منه ذلك أطرق مفكراً، فقال معاوية مالي أراك مطرقاً إطراق الأفعوان في أصول الشجر؟ قال:(أنا أناديك ولا أناجيك؛ أخوك من صدقك، ففكِّر في الأمر قبل أن تندم) فهو لم يرض البيعة ليزيد، ولم يوافق معاوية على ما أراد لابنه من المُلك؛ وبهذه اللهجة الحازمة جابه خليفة المسلمين، مع قدرته على الفتك به. ولقد حذّر معاوية ابنه يزيد منه، إذ كان لا يخشى عليه أحداً سواه؛ قال لابنه:(إياك منه - ابن الزبير - إنه الثعلب الماكر، والليث يصول بالجراءة عند إطلاقه، فوجَّه إليه كلَّ جدك وعزمك، وأما ما بعد ذلك فقد وطّأت لك الأمم، وذللت لك أعناق المنابر. . .). فمعاوية السياسي الخطير، والداهية العظيم، لم يكن يخشى على خلافة ولده إلا عبد الله؛ وإنما كان يتوقع الشر والوثوب من جانبه، لما يعهده فيه من قوة الشكيمة، وصدق العزيمة، وأنه لا يستكين ولا يستخذي، وأن صدرَه مطويٌّ على أمور جسام
ويلحق معاوية بربه، فيتجلى نزوع ابن الزبير للخلافة بصورة واضحة قوية، حيث يتولى يزيد الأمر، ويميل إلى السرف في المتع والشهوات، وينغمس في ملاذه، حتى لينسيه ذلك أن يعني بأمور المسلمين على الوجه الذي يرضي جمهرتهم في سائر الأمصار، ويضمن التفافهم حوله. حينئذ يغلي صدر عبد الله بمكنوناته، فيتحفز، وتزداد حرارة نفسه، ثم ينطلق إلى منبر المدينة، فيلقى من أعلى ذروته على أهل الحجاز كلمة الثورة على الخليفة الأموي؛ يخطب القوم خطبة حماسية حارة، يسب فيها يزيد، ويذكر مقابحه وعيوبه، ثم يبلغ كلامه مسامع يزيد، فيؤدي هذا إلى وقعة الحرَّة، التي انتهك فيها جيش الخليفة حرمات المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه نقطة سوداء أثيمة، كان من شأنها تحويل قلوب كثيرة من مختلف الأقطار الإسلامية عن الخلافة الأموية، وساعدت ابن الزبير كثيراً على مطلبه؛ وقد قلنا إنه كان يتطلع إلى منصب الخلافة وزعامة المسلمين منذ زمن بعيد، وكانت نزعته هذه تعتمد على عدة أمور: منها أن عثمان استخلفه على الدار يوم حصارها، فتدخَّله من هذا الاستخفاف طموح إلى الأمر، ولذا كان يقول لئن أُصبتُ بأبي فلقد أصبت بإمامي عثمان؛ وقوّاه على هذا أن طلحة والزبير قدّماه للصلاة بالناس أيام وقعة